الخميس، 12 نوفمبر 2015

التوافق بين الإرادة البشرية والتدخل الغيبي يُحدِث تناغماً يُمَكِّن الإنسان أن يكون أهلاً لتوفيقٍ رباني




حديث الجمعة
 3 محرم 1437هـ الموافق 16 أكتوبر 2015م

السيد/ علي رافع


      حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
      الحمد لله الذي جمعنا على ذكره، وعلى طلبه، وعلى مقصود وجهه.
      الحمد لله الذي جعل لنا بيننا حديثاً متصلاً نتواصى فيه بالحق والصبر بيننا، نتدبر أمور حياتنا، وقوانين وجودنا، وما أتى به ديننا ليكشف لنا من أسرار الحياة، ليعلمنا كيف نسلك على هذه الأرض، ويخبرنا عما فينا من ظلام وعما فينا من نور، عما فينا من باطلٍ وعما فينا من حق.
      والباطل هو ما ليس له امتداد، إنما لحظاتٌ يتصور فيها الإنسان أنه يعيشها، ويسعد بها، ولكن في واقع الأمر ليس لها من بقاء. والحق هو ما سوف يبقى، "...الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ..."[الكهف 46]، ما سوف يمكث في الأرض، "...كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء"[إبراهيم 24].
      يحدثنا ديننا عن كيف نتعامل مع الباطل وكيف نتعامل مع الحق فينا، والتعامل فيه استعانةٌ بالله، وفيه دعاءٌ لله. علينا أن نتعلم كيف نتعامل مع كل وجودنا. والتعَلُّم هو بالتدبر وبالمشاهدة وبالذكر الدائم لله. مما ينتج عن هذه المشاهدة وهذا التدبر من علمٍ، نمارسه فنعرف أكثر.
      وحديث رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يوضح لنا ذلك، [المعرفة رأس مالي](1)، المعرفة هي ما يُمَكِّنني من أن أعمل عملاً صالحاً، فمن هنا، تشبيهها برأس المال الذي يُمَكِّن الإنسان من أن ينفذ ما يعتقد أنه الحق. ولينفذ الإنسان ذلك، فعليه أن يستخدم ما أعطاه الله من نعمة العقل، [والعقل أصل ديني](2). فبالمعرفة التي لعب العقل فيها دوراً أيضاً، وبالتنفيذ الذي هو أيضاً يُنَفَّذ بعقلٍ وبفهمٍ وإدراكٍ لِما يجب أن يكون، يستطيع الإنسان أن يعيش على هذه الأرض عيشةً راضية.
      والأمر الإلهي يجيئ متوافقاً مع ما يعقله الإنسان على هذه الأرض. فحين أمر الله رسوله بالهجرة من مكة إلى المدينة، جاء هذا الأمر متوافقاً مع مقتضيات الحال وما يقوله العقل. وقد أصبح البقاء في مكة مستحيلاً، لتراكم الظلام حول الداعي. لذلك، جاء الأمر الإلهيّ بالهجرة متوافقاً مع حتمية الخروج من هذا الظلام إلى مكانٍ أفضل، يمكن لدعوة الحق أن تنتشر منه. هذا التوافق بين الأمر الإلهي والإرادة البشرية يُحدِث تناغماً، يُمَكِّن الإنسان أن يكون أهلاً لتوفيقٍ رباني.
      نرى ذلك فيما حدث من تدخلٍ غيبي في رحلة الرسول من مكة إلى المدينة، بدءاً من خروجه من داره، وقد وقف أمام داره الكثير من شباب قريش ليقتلوه، وليتفرق دمه في القبائل، مروراً بمن أرسلوه ليلاحقه وما حدث له، إلى ما حدث في الغار، "...ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا..."[التوبة 40]، هذا التدَخُّل الغيبي الذي جاء لتحقيق أمرٍ إلهيّ متوافقٍ مع إرادةٍ بشرية وتخطيطٍ يتناسب مع الأرض وقوانينها.
      وإذا كانت حالة الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ حالةً خاصة، إذ كان يتلقى وحياً، فإن هذا لا يعني أن التدَخُّل الغيبيّ لا يُوجَد على هذه الأرض الآن، وإنما هو موجودٌ بصورٍ كثيرة. موجودٌ في إرادة الإنسان يوم يتجه إلى الله بالدعاء أن يوفقه وأن يهديه الطريق السليم، ويوم يعقلها ويتوكل، ويوم لا يتكبر على قانون الأرض وإنما يتعلمه.
      يتعلمه في كل شيءٍ، يتعلمه في العلم الماديّ الذي يبحث عن الظواهر ومُسبباتها، وعن الأحداث ومُحدِثاتها، وعن النتائج والأفعال التي تؤدي إليها، فيما يحدث للإنسان على هذه الأرض، في كل المجالات الطبيعية، والإنسانية، والمجتمعية، والاقتصادية، والسياسية. في كل علمٍ ماديّ، وفي كل علاقةٍ بشرية. "...ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ"[فصلت 34]، "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ.."[العنكبوت 20]، الأولى علاقةٌ بشرية، والثانية علاقةٌ علميةٌ مادية.
      فإذا اتبعت هذا الطريق وهذا المنهج، وكنت دائماً في دعاءٍ أن يوفقك الله، ساعدك الله وأعانك أن تحقق ما تبتغيه، وأنت تطلب الحق وتطلب الخير لك وللناس أجمعين. وقد يكون غير مطلوبٍ لك أن تحقق أمراً في وقتٍ ما، فتصادفك عقباتٌ، وهذه العقبات قد يكون فيها خيرٌ لك، فليس كل ما تشتهيه سوف تناله، "...عَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ..."[البقرة 216]،  فتدَخُّل الغيب لا يعني أنه دائماً فيما تهوى، وإنما يتبع قانون الغيب.
      لذلك، فلا تتصور أنك طالما اتخذت أسباب الحياة فإنك ضامنٌ أن تصل إلى ما تريد، وإنما لا يُوجَد طريقٌ آخر، فالسلوك على هذه الأرض هو كذلك، أن تتبع ما تعلمه وتعرفه وتظن أنه الحق، ولتنظر إلى الغيب كيف يتعامل معك، لا تنتظر شكلاً معيناً لتَدَخُّل الغيب، وإنما تظل سائراً على الطريق، متبعاً المنهج الذي تراه.
      وقد يصاحب ذلك توفيقاً إلهيّاً غيبياً، أو قد لا يصاحبه، وستظل دائماً تسير على نهج ما ترى أنه الخير بالنسبة لك، وما ترى أنه الحق والخير طبقاً لما تعلمته، وربما يؤدي بك ذلك إلى أن تُغيِّر قراراتك وقناعاتك إلى صورةٍ أخرى، وتسلك طريقاً آخر.
      عباد الله: إن علينا دائماً أن نبدأ بأنفسنا، ونبدأ بمعرفتنا، ونبدأ بعقولنا، ونخطو الخطوة الأولى في طريق الصلاح والفلاح، لنتعلم من الطريق الذي نسلكه، وتعَلُّمنا يكون بتأكيد ما اعتقدناه، أو بنفي ما تعلمناه.
      لذلك، فإن التَعلُّم قد يكون من الصواب وقد يكون من الخطأ، وهذا معنى الحديث: [من اجتهد فأخطأ فله أجر، ومن اجتهد فأصاب فله أجران](3)، لأنه في كلٍّ خير، في كلٍّ تعَلُّم. التعَلُّم في الخطأ وفي الصواب، وأما إذا صادف فعله صواباً فيضاف إلى ما تعلمه أنه قدم شيئاً مفيداً للبشرية وللإنسانية ولنفسه أولاً. أما التَعلُّم فهو ثابتٌ سواء أخطأت أو أصبت.
      عباد الله: نسأل الله: أن نكون سالكين طريق الحق، وأن نكون دائماً مجتهدين، لنتعلم أكثر، ولنعرف أكثر، ولنقدم الخير لأنفسنا ولمجتمعنا أكثر.
      فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
      الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
      عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: أن الإنسان على هذه الأرض عليه أن يفكر فيما هو خيرٌ له، بمعاييرٍ تَعَلَّمها وبعلمٍ تَعَلَّمه، وأن ممارسته لهذا المنهج سوف يصاحبه تدَخُّلٌ غيبيٌّ، إما بالتيسير والتأييد وإما بعكس ذلك، وبهذا تكون مسيرته للتعَلُّم الدائم.
      وبالتعَلُّم الدائم هو يُغيِّر من اتجاهه، فقد يكون في لحظةٍ ما يتصور أن الحق في اتجاهٍ معين، ثم يتعَلَّم، فيجد الحق في اتجاهٍ آخر، "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ..."[الزمر 18]. القادرون على تغيير قناعاتهم بما يتعلمون من خلال مشاهداتهم، ومن خلال سمعهم، ومن خلال إعمال عقولهم ـ هم القادرون على مواصلة الحياة، والبقاء فيها. والغير قادرين على ذلك فإنهم لا يستطيعون مواصلة الحياة.
      "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ"[التين 6:4]، فخَلْق الإنسان في أحسن تقويم، هو في قدرته على التَعَلُّم وعلى التغيير، فإن لم يستطع ذلك فسوف يُرَدُّ إلى أسفل سافلين. وأحسن تقويم هو قدرة الإنسان أن يعمل صالحاً بعد إيمانه بمعنى الحياة.
      والعمل الصالح هو الذي يَنتُج من تَعَلُّمٍ وعدم الثبات على الخطأ إذا أدركه الإنسان، هذا هو العمل الصالح. العمل الصالح هو الذي يُغيِّر، "...إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ..."[الرعد 11]، فالتعبير "...حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ..."، هو تعبيرٌ آخر عن العمل الصالح.
      وفي آيةٍ أخرى "إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ"[العصر 3،2]، فالتواصي بالحق، والتواصي بالصبر هنا، هو في تبادل المعارف، والعلوم، والمعاني، والتجارب ـ والصبر على ما يقوم به الإنسان حتى يُنتِج أثره. فمعرفة الإنسان أن لكل شيءٍ وقتٌ، هو الصبر في واقع الأمر.
      عباد الله: نسأل الله: أن يجعلنا من الذين يتبعون منهج الحق، وأن نكون من الذين يتعلمون، ويتواصون بالحق ويتواصون بالصبر، وأن نكون من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، نكون من الذين يغيرون ما بأنفسهم، يحاولون ويجاهدون، وبالله يستعينون، يدركون أن لا حول ولا قوة إلا بالله، وأن التوفيق من عند الله، وأن تعَرُّضهم لتوفيق الله هو باجتهادهم، وبدعائهم، وبتواصيهم بما هو حق، وأن يصبروا على ما يعرفون حتى يُنتِج نتاجه، فلا يتعجلون ولا يتسرعون.
اللهم وهذا حالنا، وهذا قيامنا، نتجه إليك، ونتوكل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك.
      اللهم فاكشف الغمة عنا، وعن بلدنا، وعن أرضنا .
      اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
      اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
      اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه الساعة ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلا قضيتها .
      اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
      يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا.         
___________________    

(1)  ، (2) "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سنته فقال: المعرفة رأس مالي، والعقل أصل ديني، والحب أساسي، والشوق مركبي، وذكر الله أنيسي، والثقة كنزي، والحزن رفيقي، والعلم سلاحي، والصبر ردائي، والرضا غنيمتي، والعجز فخري، والزهد حرفتي، واليقين قوتي، والصدق شفيعي، والطاعة حبي، والجهاد خلقي، وقرة عيني في الصلاة. الراوي: علي بن أبي طالب، المحدث: العراقي- المصدر: تخريج الإحياء- خلاصة حكم المحدث: لم أجد له إسنادا.

(3)  حديث شريف نصه: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر" المحدث: ابن تيمية .

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق