الاثنين، 11 ديسمبر 2017

إنّ معنى الرّب ليس مجرّد كلمة، فالرّب هو مقصود الإنسان،هو أعلى الإنسان،هو كلّ عظيمٍ بالنّسبة للإنسان.

حديث الجمعة 
14 محرم 1439هـ الموافق 6 أكتوبر2017م
السيد / علي رافع
 حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
"إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ"[فصلت 30].
هكذا تعلّمنا هذه الآية أن نكون، وأن نجتهد لنكون من "..الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ..."، وهذا أمرٌ لا يكون بالنّطق به فقط، وإنّما يجيئ نتيجة جهادٍ وممارسةٍ وتدريبٍ من خلال حياة الإنسان. فالنّاس يعتقدون أنّ مجرّد أن يقولوا بألسنتهم إنّ "... رَبِّيَ اللَّهُ"[غافر 28]، فإنّهم بذلك يكونوا مؤمنين، يكونوا مدركين لمعنى إنّ "... رَبِّيَ اللَّهُ".
لنتأمّل في أبعاد هذه الآية، علينا أن ننظر إلى أنفسنا، وأن نسأل أنفسنا: ما هو مقصودنا، وما هو مطلوبنا؟ إنّ معنى الرّب ليس مجرّد كلمة، وإنّما تعني في كثيرٍ من الأحيان ما يقصده الإنسان، فالرّب هو مقصود الإنسان، وهو وُجهة الإنسان، وهو أمل الإنسان، وهو أعلى الإنسان، وهو كلّ عظيمٍ بالنّسبة للإنسان.
فنحن حين نركع في صلاتنا نقول: سبحان ربّي العظيم، وحين نسجد نقول: سبحان ربّي الأعلى. فسبحان ربّي العظيم؛ لأنّني أقصد كلّ ما هو عظيم، مقصودي هو العظيم، والعظيم هو الذي يُحكِم ويصرّف الأمور بحكمةٍ وبتجلٍّ وبترفّعٍ وبرحمةٍ وبكرمٍ وبتقديرٍ، بصورةٍ أكبر من أيّ تصوّرٍ وأيّ تخيّلٍ.
والأعلى، سبحان ربّي الأعلى، "سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى"[الأعلى 2،1]، "...ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا"[الكهف 37]، والتّسوية هنا هي أنّه أقامك لتعرج في معراجه، لتكون أعلى، تكون في معراجٍ من عليٍّ إلى أعلى، لا تكون في أسفل سافلين، وإنّما تكون في أعلى عليّين.
ولتعلو، فإنّك يجب أن تكون حيّاً؛ لأنّ الحياة هي ما يُعليك، فإذا فقدت الحياة فليس هناك ما يُعليك، وإنّما ستكون مرتدّاً إلى أسفل سافلين، فالبذرة التي تفقد معنى الحياة فيها ترتدّ إلى أسفل سافلين، والبذرة التي حافظت على معنى الحياة فيها تطوّرت، ونمت، وحيت، وأصبحت "...كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء"[إبراهيم 24].
فهل مقصودك هو الأعلى والعظيم؟ هل مقصودك هو الذي "...لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ..."[الشورى 11]؟ هل مقصودك من حياتك أن تكسب هذه الحياة؟ أم أنّ تفكيرك محصورٌ في أمورٍ دنيويّة، في عظمةٍ ذاتيّة، وفي أهدافٍ وقتيّة، وفي تفاضلٍ بينك وبين الآخرين؟ لا مانع أن تحيا حياةً تعمل فيها على الأرض وتكسب من خيرات الأرض، ولكن ما هي وُجهتك الأصليّة، ما هي قبلتك الحقيقيّة؟ من هو ربّك؟ ما هو هدفك، ما هو مقصودك؟
إنّ القوم حين قالوا: [المقصود وجه الله]، فهذه العبارة تشرح كلّ شيء، فأنت على هذه الحياة وأنت تعمل لتصل إلى أيّ هدفٍ أرضيّ، لو أنّك رأيت في كلّ ما هو ظاهرٌ لك وجه الله، أصبحت قائماً في معنى المقصود وجه الله، فأنت لا ترى الشّيء للشّيء، ولكن ترى الشّيء؛ لأنّ وراءه الله، وهذا ما نتحدّث عنه دائماً في معنى التّعامل مع الله، وأن تكون متعاملاً دائماً مع الله.
إنّ المعنى الواحد والمفهوم الواحد، له صورٌ كثيرة في التّعبير عنه، "..الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ..."، تعبيرٌ عن مفهومٍ وهو علاقة الإنسان بالله. "سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى"، هو تعبيرٌ آخر عن هذه العلاقة. "وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ"[فصلت 33]، هو تعبيرٌ آخر عن معنى العلاقة بالله. [المقصود وجه الله] تعبيرٌ رابعٌ عن هذا المعنى. وتتعدّد التّعبيرات عن المفهوم الواحد، وهو علاقة الإنسان بربّه، وارتباط ربّه بمعنى الله الذي "...لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ...".
فالله بتجلّيه على النّاس يتجلّى فيما يقصدون، يتجلّى في معنى الرّبوبيّة لهم، [فكان غيباً من غيبك، وبدلاً من سرّ ربوبيتّك حتّى صار بذلك مظهراً نستدلّ به عليك](1)، هكذا قال القوم في مخاطبتهم لرسول الله: [فكان غيباً من غيبك]؛ لأنّهم لا يستطيعون أن يحيطوا به. [وبدلاً من سرّ ربوبيتّك]؛ لأنّه تجلّى لهم في أرضهم، في مظهرٍ يرونه، وهذا هو سرّ الرّبوبيّة، هو تجلّي الله على هذا الكون بالمعاني التي يقصدها الإنسان، فهل رأى الإنسان في كلّ ما يتّجه إليه أنّ وراءه الذي "...لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ..."، وأصبح ما يتّجه إليه، وإن تعدّد، إلّا أنّ وراءه واحدٌ لا يتعدّد.
ونحن نرى ذلك في توجيهاتٍ كثيرة في آيات الله، "قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى..."[الإسراء 110]، فادعوه بها*، فما كانت أسماء الله الحسنى إلّا تجلّيه بأسماءٍ متعدّدة، وهو من وراء كلّ هذه الأسماء بواحديّته.
كلّ ذلك موجودٌ في معنى: "..الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ..."، إنّها معانٍ كثيرة، إنّها تجلياتٌ كثيرة، إنّها مفاهيم كثيرة، إنّها تعبيراتٌ كثيرة ـ كلّها يتّجه إلى مصدرٍ واحد. الذين قالوا ذلك، الذين قاموا ذلك،"...تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا.."[فصلت 30]، وهذا أيضاً فيه تفصيلٌ.
حين ننظر، أو ينظر كلّ إنسانٍ منّا في حياته سوف يجد أنّه في أوقاتٍ يصيبه الخوف، يصيبه الخوف من حاضره، وقد يصيبه الخوف من مستقبله، وقد يصيبه الخوف من ماضيه، فربّما يتذكّر عثراته في قديمه في حياته الأرضيّة، وربّما يتذكّر حاله وما هو قائمٌ فيه، ويخاف من هذا الحال، كما خاف ممّا قام فيه في ماضيه، وعمّا سيلحقه في مستقبله.
وقد يحزن أيضاً على ما فاته في ماضيه، وقد يحزن على الحال الذي هو فيه، وقد يحزن على ما يتوقّع أنّه سيلاقيه، وهو في حاجةٍ إلى سندٍ وإلى قوّةٍ تمدّه بطاقةٍ تمكّنه من أن يستمرّ في حياته.
إذا كان الإنسان قد أدرك ذلك، وحاول أن يقوم في معنى: "..الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ..."، فالمدد سيجيئ، والتّغيير سيكون، والخوف سيزول، والحزن سينتهي، وسوف يعلم أنّ كلّ ما مرّ به، وكلّ ما يمرّ به، وكلّ ما سيمرّ به، إنّما هو لتَجْلِيَةِ قلبه، لإحياء قلبه، لإنارة عقله، لتطهير روحه، لتزكية نفسه.
لذلك،ٍ فإنّ هذه الآية موجّهة لكلّ إنسانٍ يشعر بالخوف والحزن، توجّهه أن يتأمّل في قوله "..الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ..."، حين يقرأ الإنسان هذه الآية فيرى نفسه خائفاً حزيناً، يتأمّل في معنى "..الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ..."، ويتوجّه بفكره وبعقله وبقلبه، ليكون في هذا المعنى، يبتعد عن حزنه وخوفه، ليفكّر ويتأمّل في هذا المعنى، ويصبح همّه أن يكون فيه، وأن يقوم فيه.
"...أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ"[فصلت 30]، يرى البشرى في أن يحيا، فالوعد هو أن يكون حيّاً، هو القانون الإلهيّ، هو الطّريق الحقيّ، هو الصّراط المستقيم، هو المعراج إلى أعلى، يرى أمامه طريق العلوّ، طريق الحياة، طريق النّجاة، ويشعر أنّ كلّ ذلك لا يكون إلّا برعاية الله، "نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ، نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ"[فصلت 32،31].
فلنقرأ هذه الآية، ولنتدبّرها بعقولنا وقلوبنا، ليكون أملنا أن نكون من "..الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ..."، هكذا نتحوّل من حالٍ إلى حال، ومن قيامٍ إلى قيام، أملنا في الله كثير، وأملنا في الله عظيم، نسأله في كل لحظةٍ وحين أن نشهد حقّاً أنّ لا إله إلّا هو، وأن نشهد حقّاً معنى رسوله الكريم حيّاً، فمعنى الحياة، ليس في القيام في جسدٍ على هذه الأرض، وإنّما الحياة هي نورٌ، وهي طاقةٌ باقية، تعلّمنا أن نستعين بها، وأن نوصل بها.
"إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا"[الأحزاب 56]، وما الصّلاة على النبيّ إلّا في قيام صلةٍ به، وهو أمرٌ دائمٌ لم يتوقّف في قديم، ولا يتوقّف في حاضر، ولن يتوقّف في قادمٍ؛ لأنّ معنى رسول الله هو معنىً حيّ، نتّجه إليه طالبين صلةً، فنحن نؤمن وندرك معنى: [فكان غيباً من غيبك وبدلاً من سرّ ربوبيّتك حتّى صار بذلك مظهراً نستدلّ به عليك].
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والشّكر لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
تأمُّلنا اليوم كان في الآية: "إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا..."، وهذا المعنى هو طريق الحياة، وقد تحدّثنا في معنى: "..الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ..." وأبعادها المختلفة، وكيف أن يتبع ذلك أن يتعامل الإنسان مع كلّ ما يشهده من خلال أن كلّ ما يطلبه وما يقصده، هو مظهرٌ من مظاهر تجلّي الله عليه في هذا الكون، وهذا معنى: "...ثُمَّ اسْتَقَامُوا..."، في واقع الأمر.
فـ "...ثُمَّ اسْتَقَامُوا..."، تعني ـ من وجهة نظرنا، أو من تأمّلنا ـ أنّها استقامة التّعامل في كلّ ما ينشده الإنسان وفي كلّ ما يقصده الإنسان، وأنّ هذه المحاولة إذا بدأت من الإنسان، فسوف تكون كالدّعاء المستجاب، "...ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ..."[غافر 60]، واستجابة هذا الدّعاء هو تقديم العون الإلهيّ في معنى: "...تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا..."، وفي مساندة الإنسان الذي اتّبع هذا الطّريق.
فجعلت هذه المساندة الحزن والخوف يبعد عن الإنسان، والأمل والبشرى بحياةٍ قادمةٍ مستمرّةٍ في معراجٍ أعلى نصب عينيه، يراها أمامه في حياته، وهذا فضلٌ من الله عظيم، وبشرى، بمعنى "نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا..."، رعايةٌ مستمرّة وإحاطةٌ مستمرّة في الدّنيا والآخرة، وهذا معنى من معاني المغفرة والرّحمة، "...نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ".
إنّ هذه الآية تساعد الإنسان في تأمّلها على أن يستقيم في حياته، لتكون حياةً مثمرة، ولتكون حياةً تجعله قادراً على مواصلة مسيرته الرّوحيّة.
عباد الله: نسأل الله: أن يحقّق لنا ذلك، وأن يجعلنا من "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ..."[الزمر 18]، ومن الذين يقرأون آيات الله فيتدبّرونها، ويتعلّمونها، ويقرأونها بقلوبهم وعقولهم، حتّى تكون نوراً تهديهم إلى الصّراط المستقيم.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النّاس حولنا.
اللهم ونحن نتّجه إليك، ونتوكّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلّا إليك.
اللهم فاكشف الغمّة عنّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السّاعة ذنباً إلّا غفرته، ولا همّاً إلّا فرّجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلّا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا.

______________________

(1)       جزء من الياقوتة الشاذلية.


* "وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ۖ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۚ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" [الأعراف 180]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق