الاثنين، 29 يناير 2018

الإنسان يعيش بين وجودٍ مادّيّ ووجودٍ روحيّ، وكلّ وجودٍ يؤثّر في الآخر بطريقةٍ متبادلة

حديث الجمعة 
28 صفر 1438هـ الموافق 17 نوفمبر 2017م
السيد/ علي رافع

حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
نستعين بالله ونستنصره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، نعوذ به من الشّيطان الرّجيم، سائلينه رحمةً باسمه الرّحمن الرّحيم، فلا ملجأ ولا منجى لنا إلّا بالله الرّحمن الرّحيم، نلجأ دائماً إليه، ونتوكّل دائماً عليه.
عباد الله: إنّ كلّ إنسانٍ فيه سرّ الله، فيه فطرة الله، فيه نور الله، فيه الأمانة التي حمّله الله إيّاها، فيه الحياة التي وهبه الله إياها، وله هذا الجسد الذي يتواجد من خلاله في هذا العالم المادّيّ. وجعل الله للكيان المادّيّ صفاتٍ وحاجاتٍ ومتطلباتٍ، كما أوجد في القيام الرّوحيّ المعنويّ قدراتٍ وعلماً وقدرةً على الذّكر، أوجد في هذا القيام الرّوحيّ علماً، وقدرةً على التّغيير وعلى الإدراك في هذا الوجود المادّيّ.
فحمل الإنسان هذين الوجودين، وكان في معنى الإنسان الذي أَنِس لمعناه كما أَنِس لذاته، فكان إنساناً. هذان الوجودان يكمّلان بعضهما البعض، وهذا ما نتعلّمه بفطرتنا، وما جاءت الأديان لتؤكّد عليه.
فأنت حين تنظر في الأرض متأمّلاً في حال النّاس، فسوف تجد فريقاً فرّط في قيامه المعنويّ، فهان عليه أن يفعل أيّ شيء، هان عليه أن يعتدي، وهان عليه أن يسرف في تحكّمه وفي إذلاله لإخوانه في البشريّة. فتجد الحاكم الطاغية، وتجد المجرم الذي يسرف في إجرامه، تجد القاتل الذي يسرف في القتل، والسارق الذي يسرف في النّهب، والخائن الذي يخون وطنه، تجد أصنافاً كثيرة من البشر هذا حالها وهذا قيامها، وتجد أنّه كلما انغمس في هذا الحال المظلم، ازداد جبروته، وازداد ظلمه، وازداد إسرافه.
وتجد فريقاً آخر مراقباً لنفسه، محاسباً لها، لا يستطيع أن يأخذ مال غيره، ولا أن يهمل في عمله، ولا أن يسيئ لأحدٍ من إخوانه في البشريّة، عفيفاً، رحيماً، كريماً، معطاءً، متقناً لعمله، مقدّماً من ماله وعلمه، محاولاً أن يكون أداة خيرٍ لغيره. وكلّما ازداد في ذلك، كلما أصبح أكثر كرماً، وأكثر عطاءً، وأكثر نوراً، وأكثر رحمةً، وأكثر محبةً، هذا واقعٌ نراه. فالعمل الصّالح للجسد في تعامله المادّيّ، يؤثّر على وجود الإنسان الرّوحيّ، فيجعله أكثر عطاءً في قيامه المادّيّ.
وهكذا فهناك علاقةٌ وثيقةٌ بين ما يقوم الإنسان به في حياته المادّيّة، وبين قيامه الرّوحي. فالذي نسى قيامه الرّوحيّ، أثّر ذلك على عمله المادّيّ. والذي ذكر ربّه وأكبر قيامه الرّوحيّ، أثّر ذلك على قيامه المادّيّ، هذا واقعٌ نراه.
فحين تجيئ الآيات لتثبّت هذا المعنى، نجد هذا المعنى يتجلّى في الآية: "وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ..." [الكهف 28]، وهنا الحديث موجَّهٌ لرسول الله، لرحمة الله، لنور الله، "... وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ..."[الأنعام 122].
فـ "الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ" هم الذّاكرون، هم الرّاكعون، هم السّاجدون، هم المتأمّلون المتفكّرون المتدبّرون، فإن رحمة الله تُغذّي وجودهم الرّوحيّ وتُقوّيه، وتجعله أكثر نوراً، "... نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ ..."[النور 35]، فينعكس ذلك عليهم، "... وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ..."[الحشر 9]، يعطون ويتّقون، يألفون ويؤلفون، يتحابّون ويتراحمون، وكلّما ازدادوا في ذلك، كلّما صبر رسول الله نفسه معهم أكثر، وأعطاهم من نوره أكثر، "نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ".
وأمّا من غفل قلبه عن ذكرنا، وهنا التّعبير أيضاً، "... أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا"[الكهف 28]، لم يدعُ الله، ولم يذكر الله، ولم يتّجه إلى داخله، ولم يُقدِّر داخله، ونسى ربّه، ونسى حقّه، ونسى رسالته ـ فكان "َأَمْرُهُ فُرُطًا"، إنعكس ذلك على عمله، وعلى معاملاته، فكان عمله طالحاً، كان عمله سيّئاً، كان عمله "... كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ ..."[النور 39]، وهكذا يسير من سيّئٍ إلى أسوأ، ومن ظلامٍ إلى أظلم، ومن جهلٍ إلى أجهل.
وقانون الحياة يعلّمنا، أنّ هذه الحلقة التي يدخل فيها الذي فرّط في أمره، يمكن أن تُقطَع ويخرج الإنسان منها برحمة الله، فلا يأس من رحمة الله. وهذا فيه أمرٌ غيبيّ، وليس أمراً ظاهريّاً. فداخل الإنسان الذي لا يخلو من سرٍّ من أسرار الله، فيه بذرة صلاحٍ مع كلّ هذا الظّلام الذي قد يكون محيطاً به، وقد يصادف هذه البذرة، يصادف وجودها رحمةً يتلقّاها الإنسان في لحظةٍ من اللحظات، وفي لمحةٍ من اللمحات، فيبدأ الإنسان في تغيير نفسه.
وهذا وإن كان أمراً نادر الحدوث، إلّا أنّه يمكن أن يحدث، فلا حرج على فضل الله. القانون العامّ أنّ الظّلام يؤدّي إلى ظلام، وأن الغفلة تؤدّي إلى غفلة، وأنّ الجهل يؤدّي إلى جهلٍ أكبر، وأنّ الظّلم يؤدّي إلى ظلمٍ أكبر ـ إلّا أنّه لا حرج على رحمة الله، وعلى فضل الله.
وكذلك، الإنسان الذي فيه خيرٌ، وفيه صلاحٌ، وفيه ذكرٌ ـ كلّ ذلك يؤدّي إلى ما هو أصلح، وإلى خيرٍ أعظم، وإلى علمٍ أكبر. إلّا أنّ هناك أيضاً في لحظاتٍ، وفي حالاتٍ، معنى الظّلام الكامن في الإنسان، يمكن أن يصادف ظلاماً أكبر، فيُخرِجه من ذلك. وهنا الحقّ يحدّثنا عن خشية الله، عن الإنسان عليه ألّا يغترّ، ولا يتصوّر أنّه وقد أصبح في حالٍ منير، أن يتكبّر، وأن يأمن قانون مكر الله، "... فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ"[الأعراف 99].
لذلك، فخشية الله هي التي تساعد الإنسان أن يضع حجاباً بينه وبين هذا الظّلام الأكبر، "... إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ..."[فاطر 28]، بالتّواضع والافتقار إلى الله، وبالإحساس برحمة الله، وعدم الغرور والكبر، وإنّما بالافتقار والتّواضع.
هكذا يجب أن يكون حال الإنسان الذي يدرك ألّا نجاة إلّا برحمة الله، وإلّا بفضل الله، وإلّا بكرم الله ـ فلا يغترّ بعمله، ولا يغترّ بعلمه، ولا يغترّ بحاله، أيّاً كان، إنّما يتّجه دائماً بالدّعاء أن يحفظه الله، وأن يبعده عن الغرور والكبر، وأن يجعله من الفقراء إلى الله.
عباد الله: هكذا نتأمّل في حال الإنسان بين ظاهره وباطنه، وأنّ كلّاً من الأمرين يساعد الآخر على النّمو والنّماء، وعلى الحياة والإحياء. كما أنّ تفريط الإنسان في أيّ جانبٍ من الجانبين، يؤدّي إلى الموت والموات. ونتعلّم أن ندعو الله دائماً، وأن دعاء الله وذكر الله هو الأساس الذي يُخرِجنا من أن نقع في عثراتنا.
والدّعاء والطّمع في الرّحمة، هو الأساس الذي يحفظنا، فلا ننسى ذكر الله، ولا ننسى دعاء الله، ولا ننسى رحمة الله، ولا ننسى أن نكون دائماً مفتقرين إلى الله، ولا ننسى أن نجتمع على ذكر الله، ونتواصى بالحق ونتواصى بالصبر ـ فهذا أيضاً وِجَاءٌ وحفظٌ من أن نقع في ظلام أنفسنا، وفي ظلام النّاس حولنا.
عباد الله: نسأل الله: أن يرحمنا، وأن يحفظنا، وأن يجعلنا من "... الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ"[الزمر 18]، ومن الذين يفتقرون إليه، ويتّجهون إليه، ويجتمعون عليه، ويتحابون فيه.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: أنّ الإنسان يعيش بين عالمٍ ظاهرٍ وبين عالمٍ باطنٍ، بين وجودٍ مادّيّ ووجودٍ روحيّ، وكلّ وجودٍ يؤثّر في الوجود الآخر بطريقةٍ متبادلة. وأنّ الإنسان إمّا أن يكون في نموٍّ إلى أعلى، أو في تدنٍّ إلى أسفل، ويمكن أن يغيّر اتّجاهه برحمة الله. رحمة الله تُخرِجه من اتّجاهه إلى أسفل ليغيّر الاتّجاه إلى أعلى، ومكر الله يغيّر اتّجاه الإنسان من أعلى إلى أدنى، وهذا قانون الوجود.
لذلك، قال إبليس لله: "... فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ"[ص 82]، ونحن ندعو في آيات الحقّ: "قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ، إِلَهِ النَّاسِ، مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ"[الناس 1 ـ 4]، ونعوذ دائماً بالله من الشّيطان الرّجيم، وندعو الله دائماً ألّا نغترّ، فالغرور هو مدخل الشّيطان الرّجيم.
وهكذا قانون الحياة الذي نراه أمامنا، ليس أمراً نظريّاً، أو تنظيراً فلسفيّاً، إنّما هو واقعٌ، نرى فريقاً فرّط في أمر وجوده الرّوحيّ، ونجد فريقاً أكبَرَ وجوده الرّوحيّ، فأثّر الإفراط على حياة الإنسان المادّيّة، كما أثّر الإكبار للمعنى الرّوحيّ في حياة الإنسان المادّيّة.
والإنسان المتدبّر المتفكّر الذّاكر، يتأمّل في الحياة حوله، ويرى هذا ويرى ذاك. أمّا الذي انغلق على ذاته، فلم ير أمامه إلّا الدّنيا وإلّا الظّلام، فهو لن يستطيع أن يرى هذا وذاك، وإنّما هو في حاله المظلم، يتحرّك من ظلامٍ إلى ظلام.
عباد الله: نسأل الله: أن نكون من الذين يفتقرون إلى الله، ويذكرون الله، ويدعون الله، ويطمعون في رحمة الله، ويستعيذون بالله من الشّيطان الرّجيم، ويبدأون باسمه الرّحمن الرّحيم، ويجعلنا دائماً عباداً له صالحين.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النّاس حولنا.
اللهم ونحن نتّجه إليك، ونتوكّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلّا إليك.
اللهم فاكشف الغمّة عنّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السّاعة ذنباً إلّا غفرته، ولا همّاً إلّا فرّجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلّا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنّا.
يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا.    


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق