الأحد، 29 يوليو 2018

إنّ التّوازن بين المطلق والمقيّد يساعد الإنسان في فهمه واستقامته، يجعله في معنى العبوديّة لله حقًّا.


حديث الجمعة
16 رمضان 1439هــ الموافق 1 يونيو 2018م
السيد/علي رافع

حمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
نستعين بالله ونستنصره، ونعوذ به من الشّيطان الرّجيم، نعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، طامعين في هدايته وفي رحمته، فـ"...مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا"[الكهف 17].
عباد الله: إنّ الطّريق في الله، هو علاقةٌ بين العبد وربّه، والعلاقة بين العبد وربّه، هي علاقةٌ تبدأ من العبد في أحوالٍ، وتبدأ من الرّبّ في أحوالٍ أخرى. "...ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ..."[غافر 60]، علاقةٌ تبدأ من العبد، "إبدأ بنفسك ثم بمن تعول"(1)، علاقةٌ تبدأ من العبد. "مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ"، علاقةٌ تبدأ من الرّبّ.
لذلك، ولنفهم هذا المعنى، سوف نجد أنّ الله من وراء كلّ شيءٍ بإحاطته، فهو وراء الإنسان، يساعده أن يبدأ طريقًا قويمًا، يساعده أن يدعوه، فهو من ناحية التّجريد هو وراء كلّ شيء، وبذلك، فالبدء منه، هو يساعد الإنسان أن يكون ذاكرًا، وأن يكون عابدًا، وأن يكون مجاهدًا. أما من جانب التّقييد، فالإنسان هو الذي يبدأ، ما نراه نحن هو بدؤنا، هو عملنا، نرى عبادتنا، معاملاتنا.
لذلك، حين نتأمّل في أنّ "مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا"، تأمُّلنا فيها، أنّه القانون المجرّد؛ لأنّه في الواقع، أنت لا تستطيع أن تقول أنّ الله قد أضلّ فلانًا، فالله لا يُرَى.
إنّك تستطيع أن تقول أنّ إنسانًا هدى إنسانًا، أو أضلّ إنسانًا؛ لأنّك ترى الهادي والمهتدي، وترى المُضِلّ والضّالّ، ولكنك لا تستطيع أن تقول ذلك مع الله، وإنّما تؤمن بأنّ ما يحدث على الأرض، وراءه الله في كلّ الأحوال، في كلّ صورةٍ، وفي كلّ شكل. ولكنّ هذا لا يمنعك من أن تتصرّف في قائمك، بما تراه أنت، وبما تفهمه أنت، من معنى الهداية والضّلال.
وهذه قضيّةٌ، كثيرًا ما نذكرها؛ لأنّ الخلط بين فهمك المجرّد وبين واقعك المقيّد، يسبّب بلبلةً، ويسبّب تشويشًا على رؤيتك لما هو قائمٌ من الحقّ.
ولذلك، نجد في أمورٍ كثيرة، أنّ ما أعطاك الله من قدرةٍ على التأمّل والتفكّر والتدبّر في واقعك، وعلى التّمييز بين ما تقبله وما لا تقبله، هو الواقع الذي يجب أن تقف وتستند إليه.
ونجد أنّ النّاس في عصورٍ كثيرة، اختلفوا بسبب فهمٍ مطلق، أرادوا تقييده، أو حالٍ مقيّد، أرادوا تعميمه. وقد اختلفوا كثيرًا على الآيات التي تصف الله، "...يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ..."[الفتح 10]، ماذا تعني؟ هناك من يريد أن يجسّد الله، وأن يجعل هذا المعنى المطلق، معنىً مقيّدًا، يفهمه بصورةٍ مجسّدة، ويختلفون في التّجسيد وفي التّصوير، مع أنّه يكفي أن نُكبِر الله عن أيّ صورةٍ، ولا ندخل في أمورٍ غيبيّة، بمحاولة تقييدها وتجسيدها.
وكذلك، الأمور المقيّدة التي تخصّ حياتنا الأرضيّة، فقد جاءت آياتٌ وأحاديثٌ تتحدّث عن واقعٍ معيّن، وعن حكمٍ معيّن، ولم يكن هذا الحديث إلّا مثالًا لتطبيقٍ لمقصدٍ عامّ، فجعل البعض من هذا التّقييد وهذا المثال، قانونًا عامًّا.
وهذا، ما نعاني منه إلى الآن، في الذين يطلقون أنّنا نريد أن نحكم بما أنزل الله، ويتصوّرون هذا الحكم في صورٍ شكليّةٍ محدّدة، مع أنّ آيات الله توضّح لنا، أنّ هذه الأمور مرجعها إلى الأمّة، "وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ..."[آل عمران 104]، وتوضّح لنا الآيات، المقاصد الكليّة: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ..."[النحل 90].
طالما أنّ أيّ تطبيقٍ على الأرض، يلتزم بهذه المقاصد، فإنّه حكم الله. فمحاولة تعميم المثال، وإطلاق المقيّد، سبّب مشاكلَ كثيرة للبيئات والمجتمعات التي تدّعي انتماءها إلى الإسلام.
وهذا ليس في الإسلام فقط، وإنّما أيضًا في الدّيانات الأخرى، في أمورٍ كثيرة، ولا نريد أن نتطرّق إلى أمورٍ بذاتها، فكلٌّ يستطيع أن يجد مثل هذه الأمور، وقد ضربنا مثلًا فيما نقوله، من مفاهيمٍ في المعاني المطلقة عن الذّات الإلهية، وعن المعاني المقيّدة في الأحكام الأرضيّة المادّيّة.
عباد الله: إنّ ما نحاول أن نقدّمه في طريقنا، هو تأمّلٌ فيما حدث في تاريخنا، بأن نرجع إلى أصولنا، وأن نقرأ آيات الله لنا، قراءةً واقعيّةً، تُرينا الحقّ حقًّا، وتُرينا الباطل باطلًا، بمنظورٍ إنسانيّ فطريّ، نجتمع عليه جميعًا، محاولين أن نُصلِح مجتمعنا، وأن نُصلِح بيئتنا. هي محاولةٌ، وهي اجتهادٌ، وقد أُمِرنا أن نحاول، وأن نجتهد، وأنّ [من اجتهد فأخطأ فله أجر](2).
ودائمًا، الإنسان سيكون كذلك؛ لأنّ أيّ صوابٍ، حتّى يراه الإنسان، هو خطأٌ برؤيةٍ أعمق. لذلك، فتطبيق هذا الحديث في شقّه الأوّل، هو القائم في حياة البشر، [من اجتهد فأخطأ فله أجر](3)، تشجيعٌ على أن يحاول الإنسان، وأن يجتهد الإنسان، وأن يتأمّل الإنسان، وهذا دوره في الحياة.
عباد الله: نسأل الله: أن يساعدنا أن نكون أداة خيرٍ وسلامٍ ورحمة لنا، ولبلدنا، ولأرضنا.
فحمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم، وما نكرّره دائمًا: أنّ إدراك ما هو مطلقٌ كمطلقٍ، وما هو مقيّدٌ كمقيّدٍ، يساعدنا كثيرًا في فهم أمورٍ قد تلتبس علينا، سواء في علاقتنا بربّنا، أو علاقة ربّنا بنا، وسواء في مفهوم تطبيقاتٍ على أرضنا، أو في التّسليم بغيبياتٍ، دون أن ندخل في تفاصيلها وتجسيدها.
إنّ هذا التّوازن بين المطلق والمقيّد، بين الغيب والشّهادة، يساعد الإنسان كثيرًا، في فهمه وفي استقامته، في حياته وفي طريقه، في سلوكه ومجاهدته، في ذكره وتأمّله وتدبّره، يجعله في معنى العبوديّة لله حقًّا.
نسأل الله: أن يجعلنا عبادًا له حقًّا، وأن يجمعنا على ذكره دائمًا، وأن يوفّقنا في طريقنا، وفي ذكرنا، وفي حياتنا.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النّاس حولنا.
اللهم ونحن نتّجه إليك، ونتوكّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلّا إليك.
اللهم فاكشف الغمّة عنّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السّاعة ذنبًا إلّا غفرته، ولا همًّا إلّا فرّجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلّا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا. 
___________________________________
(1)     حديث شريف، الراوي: جابر بن عبدالله، المحدث: الألباني، خلاصة حكم المحدث: صحيح.
(2) ، (3) حديث شريف نصه: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر" المحدث: ابن تيمية .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق