السبت، 15 ديسمبر 2018

ما هو حبل الله؟ إنّه ما يربط النّاس جميعًا، إنّه سرّ الله الموجود في كلّ إنسان.


حديث الجمعة
 22 ربيع الأول 1440هـ الموافق 30 نوفمبر 2018م
السيد/ علي رافع

حمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
عباد الله: إن آيات الله موجّهةٌ لنا جميعًا في كلّ زمانٍ ومكان، وعلينا أن نستمع إليها بقلوبٍ حيّة، وبعقولٍ منيرة، لنتعلّم ما فيها من حكمةٍ، ومن توجيهٍ إلى ما يُصلِح حالنا، ويُقوّم أمرنا.
"وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ ..."[آل عمران 103]، توجيهٌ إلهيّ لكلّ مجتمعٍ، ولكلّ جماعةٍ، ولكلّ إنسانٍ. فإذا تدبّرنا في هذه الكلمات، وتساءلنا: ما هو "حبل الله" الذي علينا أن نعتصم به؟
لو تصوّر الإنسان، أنّه مرتبطٌ بكلّ إنسانٍ آخر على هذه الأرض، "... خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ..."[النساء 1]، لو تصوّرنا أنّ هذا الارتباط، هو ما يعبّر عنه لفظ "حبل الله"، إنّه ما يربط النّاس جميعًا، إنّه سرّ الله الموجود في كلّ إنسان، فهو فيك، وهو في أخيك، وهو في كلّ فردٍ موجود في هذه البشريّة.
والتّمسّك بهذه العلاقة الإنسانيّة الإلهيّة، يؤدّي إلى أن يتراحم النّاس، وأن يتكاتفوا، وأن يعلموا أن مصيرهم واحد، وأن طريقهم واحد. بهذا الشّعور من التّرابط والتّراحم، سوف يشعر الإنسان بانتمائه إلى هذه الأخوّة الإنسانيّة، فيساعد هذا الإحساس الإنسان على أن يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه، وألّا ينفرد الإنسان بنفسه، معتقدًا أنّ انفراده سوف يُنجّيه، وسوف يُغنيه، بغير حاجةٍ وبغير ارتباطٍ مع الآخرين. سوف يساعد هذا الشّعور من الارتباط، بأن ينزع الإنسان ما في قلبه من كراهية، ومن حقد، ومن حسد.
"لاَ تَفَرَّقُواْ"، لا تشعروا بذاتكم منفصلةً عن الآخرين، وهذا حديثٌ موجّهٌ لمن يستمع، ولمن عنده استعدادٌ لتقبّل آيات الله له، والذي يشعر بنعمة الله عليه، "...وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ..."[آل عمران 103]، تذكيرٌ بما هو موجودٌ لديكم، وما أصبحتم عليه.
"... إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ..."[آل عمران 103]. وهذا تعبيرٌ عن أنّ كلّ إنسانٍ يمر بمراحل كثيرة، قد يكون في حال الانفراد، والإحساس بذاته، وبفرديّته، وهذا ما يجعله في معنى العداء للآخرين، فالإنسان ليس منزّهًا، وليس ملاكًا، وليس خالصًا من ظلام نفسه، بل أنّه يوم يستمع لهذا التّوجيه، يكون قد مرّ في مراحل حتّى يصبح في حال الاستماع.
لذلك، فإنّ الحديث ـ كما نقول دائمًا ـ هو ليس حديثًا تاريخيًّا نفهمه على أنّه كان موجهًا إلى من كانوا حول الذّات المحمّديّة بقيامه بمعنى رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ، وإن كان هذا لا يمنع أنّه كان موجّهٌ لهم أيضًا.
ولكن نحن نتعلّم أنّ الآيات لها استمراريّة، وموجّهةٌ لنا دائمًا، ولذلك نحاول أن نفهمها من هذا المنظور، لا نحاول أن نفسّرها بمنظورٍ تاريخيّ، أنّ هذه الآيات تعني أنّ هناك جماعة في عصرٍ مّا، منذ ألف وربعمائة عام، كانوا كذا وكذا وكذا، ثمّ اجتمعوا وأصبحوا إخوةً في الله، وهذه قراءةٌ واردة، إنّما معنى القرآن كرسالةٍ دائمة، هو حديثٌ موجّهٌ إلى كلّ إنسانٍ في كلّ عصرٍ، وفي كلّ مكان.
"كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ"، كنتم متفرّدين، فأصبحتم إخوةً معتصمين "بِحَبْلِ اللّهِ". هذا التّفرّد، وهو أن يعيش الإنسان في عزلةٍ عن ارتباطه الرّوحيّ، والمعنويّ، والحقّيّ، عن بيئته الإنسانيّة، وعن أخوّته في البشريّة، يجعل الإنسان "... عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ ..."[آل عمران 103]؛ لأنّ هذه الانعزاليّة الفرديّة، سوف تجعله منفصلًا عمّا يمكن أن يكسبه من طاقةٍ نورانيّة، من ارتباطه بأخوّته في البشريّة، سينعزل عن أن يتلقّى نورًا، وأن يتلقّى طاقةً روحيّة، هذا يجعله "عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ"، وهو تعبيرٌ عن أنّه يغوص في أعماق نفسه الظلمانيّة.
فالحديث هنا، لإنسانٍ مرّ بتجارب في قيامه، وفي سلوكه على هذه الأرض، والحديث لتذكيره بهذا؛ لأنّ الإنسان على خطرٍ عظيم. ونحن نتعلّم ذلك من قول رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ: [أنا أقربكم من الله وأخوفكم منه](1)، و"... إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ..."[فاطر 28]، فخشية الله، هي أن يتذكّر الإنسان ماضيه، وما كان عليه، وأنّه يمكن أن يرجع إليه، وأن يعود إلى ما كان.
وهذه آيات الله يبيّنها لنا، "... كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ"[آل عمران 103]، فمع أنّكم أصبحتم إخوةً في الله، إلّا أنّ الهداية لا نهاية لها، وحتّى تتقدموا عليكم أن تتذكروا، وحتّى تتذكّروا عليكم أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه، وما أصبحتم اليوم عليه، وتعلموا أنّ قادمكم هو أفضل، يوم تكونوا متماسكين مترابطين، وأنّ ما أنتم عليه اليوم، سوف يكون بالنّسبة لكم مرحلةً تتذكّرونها في قادم، كما تتذكّرون اليوم ما كنتم عليه في الأمس، وسوف تعلموا أنّ إحساسكم بارتباطكم وبإخوّتكم في الله في قادمٍ، سوف تكون بصورةٍ أفضل، وأقوى، وأقوم.
هكذا نتعلّم من آيات الله، معنى من معاني تطوّر الإنسان في سلوكه، من حالٍ إلى حال، ومن مقامٍ إلى مقام، ومن عداوةٍ إلى محبّة، ومن افتراقٍ إلى أخوّة، ومن تفرّدٍ إلى ارتباطٍ واجتماع.
عباد الله: نسأل الله: أن نتعلّم دائمًا، وأن نقرأ آيات الله قراءةً فيها عمقٌ، وفيها تأمّلٌ، وتفكّرٌ، وتدبّرٌ لما نحن عليه الآن.
فحمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
________________________
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: هو قراءةٌ، وتأمّلٌ، وتفكّرٌ في بعض آيات الله التي تحدّثنا عن الاعتصام "بِحَبْلِ اللّهِ". وأوضحنا ما نفهمه من هذه الآية من واقعنا، ومن حاضرنا، وليس من مجرّد قراءتها على أنّها تاريخ، وإنّما نقرؤها اليوم كما سيقرؤها آخرون غدًا، قد يقرؤونها بصورةٍ أخرى، وبفهمٍ آخر.
لذلك، فنحن مطالبون دائمًا، بأن نتواصى بالحقّ والصّبر، أن نتواصى بمفاهيمنا بيننا، وأن يتواصى كلّ مجتمعٍ بما يفهمه، ويعرفه، ويدركه. لذلك، نجد الآيات اللاحقة لما ذكرناه، تُوصِينا بذلك، "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"[آل عمران 104]، فهذه الآية مرتبطةٌ بسابقتها، وتدلّ على استمراريّة الأمر من جيلٍ إلى جيل، ومن مكانٍ إلى مكان.
 بل أنّها ـ أيضًا ـ تشرح الآية في القول: "وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ..."[آل عمران 105]، وما هذه البيّنات إلّا "حبل الله"، إلّا الارتباط بين النّاس جميعًا. علينا أن نقرأ الآيات بصورةٍ متكاملة، ونربط بينها في فهمٍ متّسق.
عباد الله: نسأل الله: أن نكون من "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ..."[الزمر 18]، وأن نكون دائمًا أهلًا لرحمة الله، ولنور الله.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النّاس حولنا.
اللهم ونحن نتّجه إليك، ونتوكّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلّا إليك.
اللهم فاكشف الغمّة عنّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه .
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا.

_____________________

(1)  "إني أتقاكم لله وأخشاكم له" حديث شريف أخرجه مسلم في صحيحه كما ورد في موطأ مالك ومسند أحمد بصيغ مختلفة.


  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق