الأحد، 8 سبتمبر 2019

القلوب المظلمة تكتسب ظلامًا، والقلوب المنيرة تكسب نورًا


حديث الجمعة 
12 رمضان 1440هـ الموافق 17 مايو 2019م
السيد/ علي رافع

حمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
عباد الله: يا من ترجون لقاء الله، ويا من تجتمعون على ذكر الله، حديث الحقِّ مُوجَّه إليكم، يُعلِّمكم ويرشدكم لما يُحييكم، ولما يؤهِّلكم لمواصلة حياتكم في الدِّنيا وفي الآخرة.
إنَّ كلَّ إنسانٍ يقرأ آيات الله بما هو له أهل. لذلك، نجد أناسًا يقرأون آيات الله وقلوبهم مظلمة، فلا تصل المعاني التي تحملها الآيات، لا تصل إليهم، وإنَّما يصل إليهم ظلام نفوسهم وجهلهم، فيفهمون ما تريد هذه النُّفوس، ما هم له أهلٌ من ظلامٍ وجهلٍ. وهناك من يقرأون آيات الله، قلوبهم طاهرة حيَّة، فيصل إليهم مفهومٌ حيّ، مفهومٌ يقودهم إلى الحياة، ويقودهم إلى النَّجاة.
وهكذا في كلِّ أمور الحياة، فالإنسان لا يرى فقط بعينيه، ولا يسمع بأذنيه، لا يسمع ولا يرى بحواسِّه فقط، وإنَّما أيضًا بقلبه، وبعقله، وبعلمه، وبنيَّته، وبطلبه، وبحبِّه، يرى بكلِّ ذلك.
"لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ..."[البقرة 286]، هذا قانونٌ من قوانين الحياة، هكذا خلق الله الإنسان، "فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ"[الإنفطار 8]، حتَّى في صورتك الحاليَّة الإنسانيَّة، فالنَّاس ليسوا سواء، إنَّهم صورٌ مُتعدِّدة، كلُّ إنسانٍ له أهليته وله قدرته.
والدِّين يدعونا أن نُوسِّع قدراتنا، وأن نجعلها أكثر اتِّساعا، وأكثر قدرةً على التَّفهم والتَّعلُّم، وما كلُّ العبادات والمناسك، إلَّا لتُحقِّق هذا الأمر. الدِّين ـ كما نقول دائمًا ـ هو منهج حياةٍ وليس مجرَّد أوامر صمَّاء، إنَّما أوامره هي أوامرٌ حيَّة، تتفاعل مع الإنسان ويتفاعل الإنسان معها، ومن هذا التَّفاعل يتطوَّر الإنسان من حالٍ إلى حال، ومن قيامٍ إلى قيام، ومن قدرةٍ على الفهم إلى قدرةٍ أكبر، ومن قدرةٍ على العمل إلى قدرةٍ أعظم.
وتتفاوت قدرات الإنسان، "لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا"، ولكن على كلِّ إنسانٍ أن يُفَعِّل طاقاته، وأن يُفَعِّل إمكاناته، وأن يستخدم ما أودع الله فيه من سرِّه، وما أودع الله فيه من قدراتٍ مختلفة، قد تتفاوت بين البشر، ولكن يُفَعِّل كلٌّ بأهليته، وبما أنعم الله به عليه.
وهذا معنى من معاني: "وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ"[الضحى 11]، فهنا المفهوم ليس فقط أن تقول أو أن تتحدَّث بما أفاء الله به عليك من نعمٍ ظاهريَّة، وإنَّما أيضًا من نعمٍ حقيَّة، فإذا فهمت فهمًا، أو إذا أدركت إدراكًا وجدت فيه نفعًا للآخرين، فتُذكِّر وتتحدَّث بهذا الذي فهمت، وبهذا الذي عرفت. وهذا معنى من معاني أيضًا: "... وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ"[العصر 3].
والحقُّ ـ كما نشرح دائمًا ـ هو حقٌّ نسبيّ، والحقُّ المطلق هو الله، أمَّا أنت، ما ترى أنَّه الحقُّ فهو رؤيتك أنت، وقدرتك أنت، وعليك أن تحاول أن تتقبَّل من الآخر، حتَّى تتغيَّر إلى الأفضل والأحسن والأقوم.
هذه السُّلوكيَّات التي نتحدَّث عنها، هي ما يؤدِّي إلى أن يرتقي الإنسان في طريق الله، هذا هو معنى السُّلوك في طريق الله.
وما يدركه الإنسان في قضيِّةٍ مَّا، أو في قضايا مَّا، هو مؤشِّرٌ على ما تنتجه ممارساته وعباداته في طريق الحياة. وصفات الإنسان كذلك، وتعاملاته، تتغيَّر بصلاته، وبصومه، وبذكره، وبدعائه، وبزكاته، وبحجِّه، وبكلِّ أعماله الصَّالحة، ويمكن أن يرى فيها الإنسان مؤشِّراتٍ على مدى تقدُّمِه أو تأخُّرِه.
وإذا كان البعض يرون في سلوكهم في الطَّريق، أن يؤدِّي بهم ذلك إلى جمالاتٍ، وإلى أحوالٍ تنخرق فيها العادات، وتحدث فيها المعجزات، فهذه رؤيةٌ محدودة. أمَّا ما تستطيع أن تلحظه حقَّا، هو في مدى إدراكك لمعاني دينك، ولمعاني حياتك، ولمعاني تعاملاتك، وما تعمله وتفعله فعلًا في حياتك، وفي كلِّ أحوالك على هذا الكوكب.
لذلك، نجد الحديث يقول: [من لم تنهه صلاته فلا صلاة له](1)، "... إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ ..."[العنكبوت 45]، و[من لم ينهه صومه عن قول الزُّور فلا صوم له](2)، هكذا نتعلَّم أنَّ هذه العبادات، لها نتائجٌ تنعكس على الإنسان في سلوكه وفي فهمه.
والإنسان يبدأ ببذرة الحياة الموجودة فيه، وبقلبه المفطور عليه، ثمَّ ينمو شيئًا فشيئًا، ويتغيَّر إلى صورةٍ بعد صورة، "فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ"، "... إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ..."[الرعد 11]، وتغييرك لما في نفسك، هو بعباداتك ومناسكك، وتأمُّلك وتفكُّرك، وذكرك ودعائك، وحمدك وشكرك، وطلبك المستمرّ في أن تكون أفضل وأن تكون أحسن، وفي استغفارك الدَّائم، وفي توبتك الدَّائمة، وفي رجوعك إلى الله في كلِّ وقتٍ وحين.
عباد الله: نسأل الله: أن يساعدنا أن نقوم في ذلك، وأن نكون قادرين على ذلك، وأن نجتمع على ذلك، وأن نقصد دائمًا وجه الله، وأن نجتمع دائمًا على ذكر الله.
فحمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصَّلاة والَّسلام على رسول الله.
عباد الله: ما تناولناه اليوم في حديثنا، هو عن أهليَّة الإنسان، وعن أنَّ ما يرى، هو ناتجٌ عن القيام الذي هو عليه، "لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ"، و"مَا كَسَبَتْ"، هو كلُّ ما ينتج عن رؤيةٍ منيرة، وعن رؤيةٍ حيَّة، و"مَا اكْتَسَبَتْ"، هو ما ينتج عن رؤيةٍ مظلمة، رؤيةٍ لا ترى الحياة الحقَّة، فتكتسب من ظلامها ظلامًا على ظلام، أما الذي عنده رؤيةٌ منيرة، فيكسب نورًا على نور.
"يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ"[آل عمران 107،106]، القلوب المظلمة تكتسب ظلامًا، والقلوب المنيرة تكسب نورًا.
والنُّور، هو أن ترى الواقع كواقع، كمشهود، بما تعلمه وتعرفه، وأن تعلم أنَّ هناك غيبًا لا تعلمه، فلا تحكم بما ليس لك به علم، وإن فعلت ذلك تكون في ظلام، أمَّا إذا حكمت بما تعلم، بقدرك، وتقول أنَّ هناك ما لا تعلمه، فأنت في نورٍ، وتكسب نورًا. نورٌ على نور، وظلامٌ على ظلام.
ليست القضيَّة فيما تقول أو تعتقد، فهذا يرجع إلى أهليَّتك، ولكن القضيَّة ألَّا تسمع إلى غيرك، فربَّما يُغيِّرك ما تسمعه إلى حالٍ أفضل وأقوم. الدِّين ليس مجرَّد رواياتٍ نرويها، وبلاغاتٍ نُبلِّغها، وأحاديثَ نردِّدها، وآياتٍ نتلوها. الدين، هو تفاعلٌ مع كلِّ ذلك، وتفاعلٌ مع الواقع ومع الحياة.
وهذه هي الكلمة السَّواء، "... تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ ..."[آل عمران 64]. وعبادة الله، هي تنزيهه عن أيِّ صورةٍ وشكل، إنَّ قمَّة عبادة الله، أن تُنزِّهَه عن أيِّ مفهومٍ لك، وعن أيِّ حكمٍ لك، وإنَّما تنظر إلى كلِّ قضيَّةٍ في أرضك من واقعك، من داخلك، ممَّا ترى أنت أنَّه الحقُّ وأنَّه الخير.
وهذا هو معنى: "أَلاَّ نَعْبُدَ"، ولكن كثيرًا من النَّاس من يفهمون "أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ"، هي مجرَّد قولٍ، أن نقول أنَّ هناك إلهًا، وأنَّ هذا الإله يريد كذا وكذا وكذا، وهذا تحديدٌ وتوثينٌ وتصنيمٌ من نوعٍ آخر، فـ "سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ"[الصافات 159]، وعمَّا يقولون، وعمَّا يعرفون.
عباد الله: هذا ما فهمناه وتأمَّلناه، ليس حقًّا مطلقًا، وإنَّما هو إدراكٌ ورؤية، نحمد الله إن أدَّى بنا هذا إلى ما هو أفضل وأحسن وأقوم، ونستغفر الله ونعود إليه إذا وجدنا هذا أدَّى بنا إلى ما هو أقلُّ وأدنى.
كلُّ فهمٍ نفهمه قد يكون من نورنا الذي أودع الله فينا، أو أن يكون من ظلامنا، [فكلُّ ابن أنثى مسَّه الشَّيطان](3)، و[إنَّ الشَّيطان يجري من الإنسان مجرى الدَّم](4)، و "... إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ..."[يوسف 53]. نحمد الله، ونستغفر الله، في كلِّ وقتٍ وحين.
فحمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النَّاس حولنا.
اللهم ونحن نتَّجه إليك، ونتوكَّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلَّا إليك.
اللهم فاكشف الغمَّة عنَّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنَّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقَّ حقَّا وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السَّاعة ذنبًا إلَّا غفرته، ولا همًّا إلَّا فرَّجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلَّا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنَّا.
يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا. 
___________________
(1)    أخرجه الطبراني الجامع الصغير للسيوطي بنص:"من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً ".
(2)    حديث شريف: حدثنا آدم بن أبي إياس حدثنا ابن أبي ذئب حدثنا سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".
(3)    حديث شريف "كل مولود من بني آدم يمسه الشيطان بأصبعه إلا مريم ابنة عمران وابنها عيسى عليهما السلام ". مسند أحمد وأيضاً أخرجه كلاً من البخاري ومسلم بصيغ مشابهة.
(4)    جاء الحديث في مسند أحمد بن حنبل بصيغ متعددة منها: "ليس منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الشياطين، قالوا وأنت يا رسول الله، قال: نعم، ولكن الله أعانني عليه فأسلم". وأيضاً "ما منكم من أحد إلا ومعه قرينه من الملائكة، ومن الجن، قالوا: وأنت يا رسول الله، قال: وأنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، ولا يأمرني إلا بخير"، وكذلك: "فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم قلنا ومنك يا رسول الله قال ومني ولكن الله أعانني عليه فأسلم" كذلك جاء بصيغ مختلفة عند مسلم والترمذي والنسائي والدرامي.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق