الجمعة، 6 سبتمبر 2019

مشيئتك بصدق، هي ما يجب أن تتَّبعه، وإذا كنت في حيرةٍ من أمرك، فادعُ الله أكثر.


حديث الجمعة 
27 شعبان 1440هـ الموافق 3 مايو 2019م
السيد/علي رافع

حمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
الحمد لله الذي جمعنا على ذكره، وعلى طلبه، وعلى مقصود وجهه، وجعل لنا بيننا حديثًا نتواصى فيه بالحقِّ والصَّبر بيننا.
والحقُّ على ما نتعلَّم، هو ما نرى أنَّه الأفضل والأحسن والأقوم، "وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ..."[العنكبوت 46]، إلَّا بالكلمة السَّواء، "... تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ ..."[آل عمران 64].
وهذه الآية، هي الحقُّ المطلق الذي يمكن أن نتمسَّك به في حياتنا؛ لأنَّ الحقَّ المطلق، هو الإيمان بالغيب، "وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ"، والله تعالى عن أيِّ صورةٍ وعن أيِّ شكل، "اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ ..."[البقرة 255]، "اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ "[الإخلاص 4:2].
الإطلاق، هو في الافتقار الدَّائم إلى المعرفة، وإلى الرَّحمة، وإلى الأحسن والأقوم، بلا حدودٍ، وبلا قيود. لا نستطيع أن نقول أنَّنا نعرف إرادة الله لنا، إلَّا في أرادتنا، "وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ ..."[الإنسان 30].
لا يستطيع إنسانٌ، أن يتكلَّم عن الحقِّ المطلق بالتَّحديد والتَّقييد، فيقول أنَّ الله أراد بنا ذلك، إلَّا إذا كان ما يقوله هو أمرٌ مجرَّد، "... يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ..."[البقرة 185]، فاليسر هنا أمرٌ مجرَّد، والعسر أمرٌ مجرَّد. فإذا قَلبْت الأمر المجرَّد إلى صورةٍ وإلى شكل، لا يمكنك أن تنسبه إلى الله، ولكن يمكنك أن تنسبه إلى إرادتك، وإلى رؤيتك، وإلى معرفتك.
هذه الإشكاليَّة في معرفة ما تريد أن تكون عليه، لا تُحلُّ بأن تعبد أصنامًا أو أشكالًا، وتنسبها إلى الله، حتَّى تخرج من إشكاليَّة أنَّك لا تعرف كيف تعبد الله، فتظنُّ في هذه الأوثان والأصنام، أنَّها وسيلتك إلى التَّقرُّب إلى الله. وما كانت المجتمعات في الجاهليَّة، إلَّا لنتعلَّم منها ما يفعله الإنسان، وما يقوله الإنسان في غفلته، "... مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ..."[الزمر 3].
وهذا ما يحاول أن يفعله الإنسان دائمًا، حتَّى في رؤيته لما يريد أن يكون عليه، إنَّه يضع صورةً له، يعتقد أنَّها ما يريد المطلق له، دون أن تكون نابعةً من صدقٍ في الرُّؤية فيما يراه، حتَّى في أدائه للعبادات، فهو يُصلِّي لأنَّ الله يريده أن يُصلِّي، لا لأنَّه هو يريد أن يُوصَل بالله ـ وهناك فارقٌ كبير. لذلك، فإنَّ البعض حين يتصوَّر أنَّه يطيع الله، فتصوُّره هذا، هو مجرَّد تصوُّر؛ لأنَّه في الواقع ـ إن صدق كما قلنا - لا يعرف ما يريد الله به، وماذا أراد الله به.
لذلك، فإنَّ "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ ..."[آل عمران 191]، يقولون: "... رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً ..."[عمران 191]، إنَّهم يدركون أنَّهم مخلوقون لحكمةٍ، وأنَّهم عليهم أن يكونوا في طلبٍ دائمٍ لهذه الحكمة بالدُّعاء والرَّجاء، لا بالصُّور، والأشكال، والتحديد، والتَّقييد.
إنَّهم في علاقةٍ ودعاءٍ دائمٍ، "يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ"، فيصلون في أعماقهم إلى أنَّهم يريدون صلةً بربِّهم، وعلاقةً بخالقهم، ليقذف في قلوبهم معنى حياتهم، ومعنى صلاتهم، ومعنى جهادهم، ومعنى اجتهادهم، ومعنى عباداتهم، ومعنى صومهم وحجِّهم، إنَّهم هم بإرادتهم التي هي من إرادة الله، هي ما يستطيعون أن يتَّجهوا إليه، فإذا أرادوا معرفة مشيئة الله بهم، فلينظروا إلى مشيئتهم، "وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ".
فإذا نظروا إلى مشيئتهم، فوجدوا أنَّهم لا يرغبون في صلةٍ، وهذا حال الكثيرين، لا يرغبون في مجاهدةٍ، لا يرغبون في اجتهادٍ، لا يرغبون أن يُعمِلوا عقولهم، وأن يذكروا بقلوبهم، وأن يسألوا ربَّهم، فهم في واقع أمرهم، لا يريدون صلاةً، وإنَّما يُصلُّون بظنِّ أنَّهم بذلك يُرضون ربًّا من تجسيدهم ومن أفكارهم.
أمَّا إن آمنوا بالله غيبًا حقًّا، فإنَّهم يُكبِرونه عن أيِّ صورةٍ يريدها، يتصوَّرونها بعقولهم،"... فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ"[آل عمران 97]، "يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ"[فاطر 15]، فإنَّك إن صدقت في رؤيتك، فسوف تجد أنَّك أنت الذي يريد الصَّلاة، أنت الذي يطلب الصِّلة، أنت الذي يدعو الله ويذكر الله، أنت الذي لا ملجأ لك إلَّا الله، ولا منجى لك إلَّا في دعاء الله، "... لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ"[الأنعام 77].
هذا حديثٌ لا يتذوَّقه الكثيرون، فهم يريدون أوامر صمَّاء، وأربابًا من خِلْقَتهم، ينحنون إليها فترضى، يعبدونها، فتغدق عليهم بالخيرات لطاعتهم لها، إنَّها صورةٌ لعلاقةٍ بين عبدٍ وعبد، بين إنسانٍ وإنسان.
فالإنسان الذي يتملَّق إنسانًا؛ لأنَّه يريد منه شيئًا، والإنسان الذي يقبل هذا التَّملُّق، كلاهما فقد حسَّه الحقِّيّ، فالذي يتملَّق نسى شهادة أنَّ لا إله إلَّا الله، والذي قبل هذا التَّملُّق نسى أيضًا شهادة أنَّ لا إله إلَّا الله، فظنَّ نفسه إلهًا يُعطي ويمنح، والآخر ظنَّ أنَّ الذي يُعطي هو إلهه وربُّه.
هكذا، حين ننظر في حياتنا، وفيما يحدث حولنا، نعرف أنَّ النَّاس يرسمون علاقتهم بالله كما يرونها في أحوال دنياهم، من علاقة عبدٍ بسيِّده، في علاقةٍ غير مستقيمة، وفي علاقة مرؤوسٍ برئيسه، في علاقةٍ منحرفة، "... فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا ..."[البقرة 256].
نجد في معنى الصَّوم رمزًا لمعنى العلاقة بالله، [كلُّ عمل ابن آدم له ..."(1)، هذا قانون، والصَّوم كعملٍ هو للإنسان أيضًا، إلَّا أنَّ باقي الحديث "... إلَّا الصَّوم فهو لي، وأنا أجزي عنه ...](2)، فيه تعبيرٌ عن أنَّ كلَّ عملٍ، والصَّوم هو تعبيرٌ عن ذلك، به يتعرَّض الإنسان لنفحات الله، تعبيرٌ عن [لا يدخل أحدٌ الجنَّة بعمله، حتَّى أنت يا رسول الله، حتَّى أنا ما لم يتغمدن الله برحمته](3).
وكلُّ عملٍ فيه تعاملٌ مع الله هو صومٌ، فالصُّوم هنا حالٌ يقوم فيه الإنسان، يوم يشعر أنَّ كلَّ عملٍ وكلَّ عبادةٍ هي دعاءٌ لله، وهي تعرُّضٌ لنفحات الله، بتعالي الإنسان عن ذاته، وعن شهواته، وعن رغباته، وعن مصالحه الأرضيَّة، فهو يتعامل مع الله في كلِّ تعاملٍ، يتعامل بما يرى أنَّه الحقُّ وأنَّه الخير؛ لأنَّه أيضًا لا يستطيع أن يعرف ما يريد الله به في الإطلاق.
فرؤيته تنبع من أن يعكس البصر إلى داخله، ليعرف ما يريده في أعماقه، فإذا كانت هذه الإرادة في أعماقه هي علاقةٌ بالله، علاقةٌ بالغيب، علاقة طلبٍ بلا حدود، وعطاءٍ بلا قيود، ورحمةٍ تسعه وتسع كلَّ ما يفعل، وهذا أمله ورجاؤه، وهذا قوله ودعاؤه، وهذا حاله وقيامه إذا رأى وجوده كذلك، يفعل هذا، وهو يرجو أن يكون أهلًا لرحمة الله، ولكرم الله.
عباد الله: نسأل الله: أن نكون أهلًا لرحمته، وأهلًا لعلمه وحكمته، وأن نكون في طريقه سالكين، ولوجه قاصدين.
فحمدًا لله، شكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
___________________________

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نُوضِّحه اليوم: هو معنى: "وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ"، فمشيئتك بصدق، هي ما يجب أن تتَّبعه، وإذا كنت في حيرةٍ من أمرك، فادعُ الله أكثر، وأرجع البصر إلى داخلك، واسأل نفسك، واسأل قلبك، ماذا تريد في هذه الحياة.
فإذا كنت تريد أن تكون فيما أراد الله لك، فادعُه أكثر، حتَّى يُلهمك ما فيه صوابك، وما فيه خيرك، وما فيه نجاتك، أدعُه حتَّى تجد في الصِّلة به مشيئتك، وحتَّى تجد في التَّعرُّض لنفحاته رغبتك، وحتَّى يكون سؤالك أن تكون أهلًا لرحمته.
وقم في مراجعة نفسك بنفسك، [حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا](4)، لا تظنُّوا بالله الظُّنون، وإنَّما سبِّحوه وأكبِروه عن أيِّ صورةٍ أو شكل، وتعلَّموا كيف ترجعون إلى قلوبكم، تستفتونها في أموركم، في حياتكم، في وجودكم، فالطَّريق إلى الله من خلال قلوبكم، والطَّريق في الله من خلال دعائكم.
وتعلَّموا أنَّ دعاء الله وأن تستغفروا، من علامات سيركم، واعلموا أن كبركم، وتكبُّركم، وظنِّكم أنَّكم في أحسن حالٍ، هو من علامات هلاككم وتوقُّفكم عن المسير، فلا تقنطوا من رحمة الله، ومن استغفار الله، ومن طلب أن تكونوا أحسن دائمًا، [فربَّ معصيةٍ أورثت ذلًّا وانكسارًا، خيرٌ من طاعةٍ أورثت عزًّا واستكبارًا](5).
واذكروا أنَّكم الفقراء إلى الله، وأن طريقنا هو طريق الفقراء إلى الله، "... الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ..."[الكهف 28]، واعلموا أنَّكم إن لم تتَّجهوا إلى مشيئتكم فتجدوا أنَّ عندكم رغبةً في الصِّلة بالله، ما صليتم، فقيام الصَّلاة بنيَّتكم، وإن لم تكن نيَّتكم أنَّكم تريدون صلةً بربِّكم، ما للصَّلاة أقمتم.
وأنَّ الصَّوم بنيَّتكم، فإن لم ترجعوا إلى إرادتكم فتجدوا أنَّكم تريدون أن تكونوا لوجودكم مُعرِّضين لنفحات الله، فما صمتم، ولو أنَّكم عن الطَّعام والشَّراب امتنعتم، فانووا صومكم أن تكونوا خالصين لله، وأن تتعرَّضوا لنفحات الله، بتخلِّيكم عن ذواتكم، وعن رغباتكم، وعن شهواتكم، لتأخذوا نفحةً تساعدكم في طريقكم.
عباد الله: نسأل الله: أن يحقِّق لنا ذلك، وأن يجعلنا دائمًا له طالبين، ولوجهه قاصدين.
اللهم ونحن نتَّجه إليك، ونتوكَّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجا ولا منجى منك إلَّا إليك.
اللهم فاكشف الغمَّة عنَّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنَّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وارنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا.  
              
_______________________

(1)  ، (2) قال اللهُ عزَّ وجلَّ: كلُّ عَمَلِ ابنِ آدمَ لهُ، إلَّا الصُّومُ ، فإنَّهُ لي، وأنا أَجْزِي بهِ، والصِّيامُ جُنَّةٌ، فإِذَا كان يومُ صِيامِ أَحَدِكُمْ فلا يَرْفُثْ، ولا يَصْخَبْ، فإنْ سابَهُ أحدٌ أوْ قاتَلهُ فَلْيَقُلْ: إِنِي صائِمٌ، إِنِي صائِمٌ، والذي نَفْسُ محمدٍ بيدِهِ لَخُلوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطْيَبُ عندَ اللهِ من رِيحِ المِسْكِ، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُما، إذا أفْطَرَ فَرِحَ بفطرِهِ، وإذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ. الراوي: أبو هريرة، المحدث: الألباني، المصدر: صحيح الترغيب، خلاصة حكم المحدث: صحيح.

(3) "لا يُدخل أحدكم الجنة عمله، قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمة وفضل" حديث شريف رواه أحمد بهذا اللفظ ورواه البخاري ومسلم هكذا "سددوا وقاربوا وابشروا فإنه لن يُدخل الجنة أحدكم عمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمه ".

(4)  مقولة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نصها : " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا ، فإنه أخف عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم وتزينوا للعرض الأكبر ، كذا الأكبر {يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية}".

(5)  مقولة لابن عطاء الله السكندري.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق