السبت، 5 أكتوبر 2019

ماذا نفعل ونحن لا ندرك الفعل الذي يؤدِّي بنا إلى التَّوافق والتَّناغم مع إرادة الله؟


حديث الجمعة 
5 صفر 1441هـ الموافق 4 أكتوبر 2019م
السيد/ علي رافع

حمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
   "... الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ ..."[الأعراف 43]. الفضل من الله، والتَّوفيق من الله، فلا حول ولا قوَّة إلَّا بالله.
ندرك هذا المعنى تجريدًا، وإكبارًا، وإطلاقًا، للقدرة اللانهائيَّة التي وراء هذا الكون والتي في هذا الكون، وندرك أنَّنا بتوافقنا وتناغمنا مع هذه الإرادة، نكسب أكثر في الله، وهذا أيضًا إيمانٌ مجرَّد، لا نستطيع أن نقول أنَّ فعلًا مَّا متوافقٌ مع إرادة الله أو غير متوافقٍ مع إرادة الله، وإنَّما فهمنا هذا، هو فهم ٌ لقانون الحياة. والتَّساؤل هو: ماذا نفعل ونحن لا ندرك الفعل الذي يؤدِّي بنا إلى التَّوافق والتَّناغم مع إرادة الله؟
هذه مُعْضِلةٌ في كلِّ أمور حياتنا، فنحن لا نعرف الغيب، ولا نطَّلع على الغيب، بل أنَّنا في حياتنا المادِّيَّة وفي علمنا المادِّيّ لا نعرف الكثير، وهو بذلك يكون غيبًا علينا، ولكنَّ الإنسان وَجد من خلال تجاربه ومشاهداته وسيلةً للتَّعامل مع هذه المُعْضِلة، وهذه الوسيلة هي المحاولة، وهي الاكتشاف، وهي المشاهدة، وهي أن يضع فرضًا ويحاول أن يحقِّقه، يُكوِّن له صورةً عمَّا لا يعرفه، ويُجرِّب، ويُغيِّر، ويُعدِّل.
بالنِّسبة لإرادة الله الكليَّة، لا نستطيع أن نضع لها فرضًا، ولكنَّنا نستطيع أن نضع فروضًا لأمورٍ نرى فيها الصَّلاح في حياتنا، هذه الفروض لها علاقةٌ بحياتنا الأرضيَّة، لها علاقةٌ بنظامنا الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ، لها علاقةٌ بحياة الإنسان المادِّيَّة ومستقبله على هذه الأرض.
وإن كانت حياة الإنسان هي غيبٌ عليه، إلَّا أنَّها تقع تحت معنى: "فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ..."[الجن 27،26]، فأنت قد تفترض أنَّه لمعيشتك على هذه الأرض، عليك أن تُنشِئ مشروعًا، أو أن تُنتِج مُنتَجًا، أو أن تزرع أرضًا، أو أن تتعلَّم عِلمًا ـ وتحاول في حاضرك أن تستكشف ما تريد، وما تستطيع أن تُحقِّقه.
نريد هنا أن نُفرِّق بين ما لا نستطيع وما نستطيع، وهذا ما نذاكر به دائمًا في معنى الفهم المُجرَّد، والعمل والفهم المُقيَّد. وما قلناه الآن، هو مثالٌ لذلك، فأنت لا تعرف ما يريد الله بك، وما يريد الله لك، وهذا فهمٌ مُجرَّد، ولكن لا يمنعك ذلك عن أن تحاول في واقعك أن تُغيِّر، وأن تُبدِّل، وأن تختار، وأن تحاول، وأن تُجرِّب، وأن تطرق الأبواب، وأن تبحث في العلوم، وأن تبحث فيما يحيط بك من طرقٍ ووسائل، لتُغيِّر بها حالك إلى الأفضل والأحسن والأقوم.
وأنت في كلِّ ذلك، عليك أن تقوم في معنى تقوى الله، فأنت تبذل كلَّ جهدك بقدر علمك وبقدر معرفتك، وتحاول أن تُقدِّم أحسن ما لديك وأفضل ما تدرك، وهذا من تقوى الله، "إنَّ الله يُحِبُّ إذا عمل أحدكم عملًا أن يُتقنه"(1)، وهذا من تقوى الله.
إنَّ كلَّ إنسانٍ عليه أن يعرف قدراته، وألَّا يتعدَّى قدراته، فلا يتكلَّم بما ليس له به علم، "... وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ..."[البقرة 285]، هذا من تقوى الله، فالإدراك لما هو مُجرَّدٌ ولما هو مقيَّدٌ، والتقوى في قيامك فيما هو مُقيَّد ـ هو طريقك للصَّلاح والفلاح.
ويُعبَّر في بعض الآيات عن المُجرَّد بالإيمان بالله واليوم الآخر، ويُعبَّر عن المُقيَّد بالعمل الصَّالح، "... مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً ..."[البقرة 62]. لذلك، نتحدَّث دائمًا، أنَّ الإسلام وأنَّ المسلم هو من آمن بالله مُجرَّدا، أسلم وجهه لله، وأنَّ المؤمن هو من عمل صالِحًا بما هو مشهودٌ له في مادِّيِّ قيامه ووجوده.
وهذه المعاني، هي معاني فوقيَّة، فوق أيِّ شكلٍ، وأيِّ صورةٍ، وأيِّ دينٍ، وأيِّ رسمٍ، وأيِّ شريعةٍ يظنُّها النَّاس ويتَّبعونها، إنَّها قوانين روحيَّة، فطريَّة، معنويَّة، إلهيَّة ـ وكلُّ إنسانٍ بفطرته يستطيع أن يصل إليها، وأن يتعلَّمها؛ لأنَّها صدقٌ مع الواقع، ومع الحياة، ومع العلم. وهذا ما نتأمَّله في معنى: "إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ ..."[آل عمران 19].
عباد الله: نسأل الله: أن نكون مسلمين حقًّا، وأن نكون مؤمنين حقًّا، وأن نكون من الذين آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالِحًا، وأن نجتمع دائمًا على ذكره وعلى طلبه وعلى مقصود وجهه.
فحمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نُوضِّحه اليوم: هو كيف أنَّ مفهوم التَّوافق مع إرادة الله، هو مفهومٌ مجرَّد؛ لأنَّنا قد نستعمله في بعض الأحيان في غير موضعه، كما لو أنَّنا نعرف إرادة الله، فيجب علينا أن نتوافق معها.
ونحن ـ كواقعٍ ـ لا نستطيع أن نعرف إرادة الله، فإرادة الله قائمة، سواء فيما نُحِبُّ أو نكره، فيما نراه خيرًا أو نراه شرَّا، فإرادة الله قائمةٌ بلا شكل، وبلا رسم، وبلا صفة، ويجب علينا ألَّا نصفها بصفة، فهي فوق الصِّفات والأشكال.
        وإنَّما ما نراه، هي رؤيتنا، ورؤيتنا محدودةٌ بإرادتنا، وبفهمنا، وبقيامنا، وبوقتنا، وبمكاننا. فعلينا أن نبحث عمَّا يجب أن نقوم فيه، من خلال ما نستطيع أن نحيط به ولو بِقدْر، وتكون هذه دائرتنا التي نتحرَّك فيها، وندرك أنَّ قيامنا بذلك في صدقٍ هو ما نستطيع، وما نستطيعه هو متوافقٌ بالفطرة وبالقانون مع إرادة الله الكليَّة، "لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ..."[البقرة 286].
فهذا توافقٌ حُكْمِيّ؛ لأنَّنا لا نستطيع أن نقوم في غيره، وهذا من أسرار خَلْقنا، أودع في كلِّ إنسانٍ ما يشغله، وما يعرفه، وما يُقدِّره، وجعل لكلِّ إنسانٍ قدراته وإمكاناته، وهذا ما يستطيع أن يقوم فيه الإنسان.
ومع كلِّ ذلك، فعلى الإنسان دائمًا أن يُكبِر الله وإرادته عن كلِّ صورةٍ وشكل، حتَّى إذا كان هذا هو الحال الوحيد الذي يستطيع أن يقوم فيه، ربَّما هو لا يعرف إلَّا ذلك، وربَّما يتَّسع إدراكه ليقوم في صورةٍ أخرى، فمفهومه في توافقه، هو توافقٌ نسبيّ، وليس توافقًا مطلقًا.
عباد الله: نسأل الله: أن يوفِّقنا لما فيه صلاحنا، ولما فيه نجاتنا، ولما فيه خيرنا، نتَّجه إليه، ونتوكَّل عليه، ونوكل ظهورنا إليه، ونسلم وجوهنا إليه، لا ملجأ ولا منجى منه إلَّا إليه.
اللهم فاكشف الغمَّة عنَّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنَّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
اللهم فتولَّنا فيمن تولَّيت، وأكرمنا فيمن أكرمت، واعف عنا فيمن عفوت.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السَّاعة ذنبًا إلَّا غفرته، ولا همًّا إلَّا فرَّجته، ولا حاجةً فيها رضاك إلَّا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا.
___________________
(1)   حديث شريف أخرجه أبو يعلي والطبراني (كتاب المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة للإمام السخاوي).




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق