الأربعاء، 29 يناير 2020

نحاول أن نُقدِّم رؤيةً للدِّين تحيط بالجميع، تتوافق مع العقل والفطرة وواقع الحياة والمجتمع


22 جماد الأول 1441هـ الموافق 17 يناير 2020م
السيد/ علي رافع

حمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
عباد الله: يا من ترجون لقاء الله، ويا من تجتمعون على ذكر الله، حديث الحقِّ مُوَجَّهٌ إليكم، يرشدكم ويُوجِّهكم.
يرشدكم إلى طريق الحقِّ والحياة، ويُوجِّهكم إلى إعمال عقولكم، وتدبُّر أموركم، وأن تُحسِنوا في تقديركم، وأن تتدبَّروا رسائله إليكم، وأن تنظروا إلى تاريخكم، وإلى تاريخ البشريَّة والمجتمعات حولكم، حتَّى تدركوا سُنَّة الله في الأرض، وكيف تسير الأمور عليها، وكيف يتغيَّر النَّاس مع مرور الزَّمن، وكيف يتفهَّم النَّاس ما يسمعونه وما يقرؤونه.
إذا نظرنا إلى ما وصل إلينا من رواياتٍ لأحاديثٍ، ولأفعالٍ، ولأوامر ونواهي، ورجعنا إلى مصادر هذه الأمور كلَّها والرِّوايات كلَّها، فسوف نجد آراءً مختلفة، وسوف نجد أحاديث قد لا يقبلها العقل، أو نجد فيها تناقضًا مع مصادر أخرى.
وقد حدث هذا في جميع الرِّسالات السَّماويَّة، وفي كلِّ الكتب التي تلقَّاها الرُّسل والأنبياء، بل أنَّ هذا يحدث أيضًا مع ما وصلنا عن الأولياء وعباد الله الصَّالحين، فهناك رواياتٌ مُتعدِّدة لأحوالٍ، ولكراماتٍ، ولأقوالٍ لا نستطيع أن نُجزِم بصحَّتها أو خطئها، وكذلك في تفسير الآيات، فهناك تفاسيرٌ مختلفة.
ما هو موقفنا ونحن نرى كلَّ ذلك؟ ماذا نفعل مع هذا التَّضارب والاختلاف الذي نجده في كثيرٍ من الأمور؟
حاول الذين يتصدُّون لمثل هذه الأمور أن يوفِّقوا بقدر استطاعتهم، فسكتوا عن أمورٍ حتَّى لا تتعارض مع ما يقولون في أمورٍ أخرى، وحاول البعض الآخر أن يرفض تمامًا كلَّ ما لا يقبله، وحاول آخرون أن يؤوِّلوا نصوصًا لتتواءم مع أفكارهم، وهذه كلُّها محاولاتٌ يحاولها الإنسان ليعيش وسط هذا التَّضارب الذي يحدث في بعض القضايا.
بل أنَّه في كثيرٍ من الأمور التي يتَّفق الجميع عليها كمجتمعاتٍ لها خلفيةٌ إسلاميَّة، إلَّا أنَّ ما يتَّفقون عليه لا يُقبَل في مجتمعاتٍ أخرى، بل أنَّه في المجتمعات الإسلاميَّة أيضًا هناك من يرفض هذا الشَّكل النَّمطي للدِّين، وليس عنده بديلٌ إلَّا أن يرفض الدِّين كليَّةً.
لذلك، حاولنا ونحاول أن نُقدِّم رؤيةً للدِّين نستطيع أن نجعلها تحيط بالجميع، هذه الرُّؤية تتوافق مع العقل، وتتوافق مع فطرة الإنسان، وتتوافق مع واقع الحياة وواقع المجتمع، رؤيةٌ لا ترفض أحدًا، وإنَّما تقبل الجميع.
وهذه قراءتنا للإسلام حقًّا، "أُرسِلت إلى الأبيض والأسود والأحمر"، أُرسِلت للكافة، "لا فضل لعربيٍّ على أعجميٍّ، إلَّا بالتَّقوى."، إلَّا بالعمل الصَّالح، إلَّا بالمعاملة الصَّادقة، الجميع سواسية، والله أكبر عن أيِّ صورةٍ أو شكل، "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ".  
هذه الدَّعوة مُوَجَّهةٌ للجميع، مُوَجَّهةٌ لكلِّ مذهبٍ في كلِّ دين، ليس فقط لمن نقول أنَّهم يختلفون معنا في الدِّين، فالدِّين الواحد يختلف متابعوه بينهم وبين بعضهم في قضايا وفي أمورٍ، وكلٌّ متمسُّكٌ بتفسيره وبرؤيته، هذه الدَّعوة مُوَجَّهةٌ إليهم أيضًا، مُوَجَّهةٌ إليهم من قرآنهم، ألَّا يتَّخذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله، والله أكبر عن أيِّ صورةٍ، وعن أيِّ شكل.
لذا نقول دائمًا أنَّه لا يُوجد إنسانٌ يستطيع أن يقول أنَّ هذا كلام الله ويكون هو مُردِّدًا له، أو هذا حكم الله ويكون هو الذي أنشأه، حتَّى ولو كانت مرجعيَّته آيةً، أو حديثًا، أو أيَّ رأيٍ ارتآه السَّلف، كلُّها آراءٌ، وكلُّها مفاهيمٌ، وكلُّها تفاسيرٌ، وكلُّها تأويلٌ.
والدِّين هو ما يقبله الإنسان ويستريح له ويستحسنه، والذي لا تعقله ولا تقبله ربَّما أنَّك لا تفهمه، فاتركه، "لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ"، واتَّجِه إلى الله بالدُّعاء أن يُعلِّمك ما لم تعلم، وأن يُوضِّح لك ما لا تفهم، وربَّما تجد تعليلًا وفهمًا يختلف عمَّا يقوله الآخرون.
الإنسان غير مطالبٍ بأن يقوم فيما لا يفهم، وهو مطالبٌ بأن يحاول أن يفهم، وأن يعرف، وأن يُميِّز، وأن يُرجِّح أمرًا على أمر، وكلُّ إنسانٍ مسئول، والدِّين يخاطب كلَّ إنسان، وما يفهمه الإنسان ويُطبِّقه على نفسه هو صالحٌ له، ولا يجب عليه أن يحاول أن يفرضه على غيره. فالدِّين مسئوليةٌ فرديَّةٌ بالنِّسبة للإنسان، "كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسئولٌ عن رعيَّته"، مسئوليَّتك أن تُذكِّر بما تعرف، لا أن تفرض أمرًا، أو حكمًا، أو فهمًا على الآخرين.
"لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ"، وهذا التِّبيان هو أمرٌ نسبيّ، يمكنك في تذكيرك أن تُوضِّحه، من يَقبَل يَقبَل، ومن يرفض يرفض، "فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى، سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى، وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى".
كل إنسانٍ له قدراته وإمكاناته، قد يستريح إنسانٌ في الفهم النَّمطيّ ويقوم فيه، وقد لا يستريح إنسانٌ لذلك. فلذلك، نحن نحاول دائمًا أن نوضِّح هذه المعاني، وأن نُوضِّح رؤى مختلفة للقضايا النَّمطيَّة، وللمناسك الشَّكليَّة، استجابةً لتساؤلات الإنسان عن أهميَّتها وعن معانيها.
نوضِّح ذلك ولا نُجبِر أحدًا أن يُفكِّر كذلك، فكرك ملكك، إنَّما قد يساعد هذا التَّوضيح البعض على أن يكونوا أكثر تقبُّلًا لهذه الأمور المنسكيَّة التي تُعبِّر عن قضايا حقيَّة. وهذا أسلوبٌ أيضًا للإجابة على تساؤلات الكثيرين الذين يتساؤلون عن هذه الأمور النَّمطيَّة، الشَّكليَّة، الحرفيَّة.
ودين الحقِّ يدعونا لنجتمع على ذلك، "اعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ"، وحبل الله هو الكلمة السَّواء، أن نُكبِر الله عن أيِّ شكلٍ أو صورة، وألَّا يتَّخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله، وأنَّ الذي يريد أن يتَّخذ بعضه بعضًا ربًّا وأربابًا من دون الله، بمعنى أنَّه يرى في كلامهم الحكم الأعلى الذي لا يقبل النَّقد؛ لأنَّه لو أضاف أنَّهم أربابٌ بالله، فإنَّه يعرض كلامهم على ما هو أعلى، وما هو مختلفٌ عنهم، ويعلم أنَّ الحكم في النِّهاية لله بالمعنى المطلق، "اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ".
فهنا، قد تسمع إلى رأيٍ ممَّن تظنُّه أكثر علمًا منك، ولكن هذا لا يعني أنَّه طالما هو أكثر علمًا منك، أنَّ كلامه هو الحقُّ المطلق، لا زال هناك أعلى، وهذا هو معنى لا يتَّخذ بعضكم بعضًا أربابًا من دون الله.
فالدَّعوة إلى التَّجمُّع، وإلى التَّحاب، وإلى التَّآلف، وإلى طلب المعرفة، هو الأساس. وهذا هو الذي يجعلكم إخوانًا، لأنَّكم إن اختلفتم، وتمسَّك كلٌّ برأيه ورفض الآخر، التَّعبير القرآنيّ هنا يُعبِّر عن هذا الحال: "كُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا".
والاعتصام بحبل الله لا يعني أن نقول نفس الكلام، أو نفهم نفس الفهم، أو نقوم نفس الحال، وإنَّما أن نقبل بعضنا بعضًا، وأن نسمع إلى بعضنا، وأن نتواصى بالحقِّ بيننا، وليس هذا لفئةٍ محدَّدةٍ من البشر، وإنَّما هو لكلِّ البشر، في كلِّ دياناتهم، وفي كلِّ معتقداتهم.
وهكذا يُبيِّن الله لنا آياته في معنى التَّآلف، وفي معنى المحبَّة، وفي معنى الاعتصام بحبله، لعلَّنا نهتدي إلى الطَّريق القويم.
ولننظر إلى مجتمعاتنا اليوم وهي تتناحر، وتتنافر، وتتصارع، وتتحارب ـ ما هو حالهم، وما هو مآلهم؟ وكيف حال المجتمعات التي تتآلف بينها، وتحترم أفرادها، وتعيش في سلامٍ، وفي توافقٍ؟ من هو الأفضل حالًا فيما نحكم به عليه من واقعنا، ومن حياتنا الأرضيَّة، ومن نظرتنا المادِّيَّة لحالنا، ولأحوال مجتمعاتنا؟
عباد الله: نسأل الله أن نستجيب للكلمة السَّواء، وأن نعتصم بحبل الله، وأن نكون أهلًا لعلم الله ورحمته ونعمته، وأن نكون على ذكره مجتمعين، ولوجهه قاصدين، ومعه متعاملين، وعنده محتسبين.
فحمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نُوضِّحه اليوم: هو رؤيةٌ لما نحن عليه، ولما صرنا إليه، كلٌّ يحارب الآخر بظنِّ دينٍ، وبظنِّ علمٍ بدينٍ، وبظنِّ تطبيقٍ لحكمٍ إلهيّ، وبظنِّ أنَّه الأفضل والأحسن والأقوم.
بل أنَّه في سبيل ذلك قد يفتري على الله كذبًا، وعلى رسوله كذبًا، كما حدث في قديم، فكم افترى أناسٌ على رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ونسبوا إليه أحاديثًا ما أنزل الله بها من سلطان، وحاول الكثيرون أن يُنقُّوا هذه الأحاديث، أو أن يتعرَّفوا عليها ويُخرِجوها من أن تُنسَب لرسول الله، ولكنَّ بعضًا منها لا زال موجودًا بيننا يُردِّده الكثيرون. 
هذا الخلاف، والاختلاف، والصراع، والحرب، والاعتقاد بالأفضلية، وعدم إدراك أنَّ الله أكبر عن أيِّ صورةٍ وعن أيِّ شكل، وعدم تَقبُّل الآخر، هو الذي يُنتِج هذا الحال، وسيظلُّ هذا الحال طالما أنَّنا لا نقبل بعضنا بعضًا، ولا نحاول أن نتفهَّم وجهة نظر كلِّ فردٍ منَّا، وأن نقبل أن نختلف في الرَّأي، وأن نختلف في الرُّؤية، ومع ذلك نعيش معًا.
بل قد نختلف في قبولنا لبعض تاريخنا، ولبعض رواياتٍ منقولةٍ لنا، حتَّى نتحقَّق منها، وحتَّى إن تحقَّقنا منها، ولكن عقولنا لا تقبلها، تركناها جانبًا، لنأخذ ما تقبله عقولنا، وما يستقيم به حالنا، وما تتحسَّن به أوضاعنا وأحوالنا.
نريد أن نتعرَّف على الواقع ونقبله، وقبولنا له لا يعني أن نسير وراء ما لا نعقله، وما لا تستريح له قلوبنا، وإنَّما نتَّخذ طريقًا نعقله، وتستريح له قلوبنا، وكلٌّ يأخذ ما يراه كذلك، لا نفرض رأيًا على أحد، ولا يفرض أحدٌ رأيه على آخرٍ، كلُّنا في طريق الحقِّ، وفي طريق الخير.
إن كانت هذه رغبتنا، وهذه إرادتنا، وهذا طلبنا، فلنسِرْ جميعًا في هذا الطَّريق حتَّى لو اختلفت آراؤنا ومعتقداتنا في تنفيذها وفي تطبيقها، إنَّما كلُّنا نُعلي الله، نشهد أنَّ لا إله إلَّا الله، وأنَّ الله أكبر، ونشهد أنَّ مُحمَّدًا رسول الله الذي أمرنا بكلِّ ما هو خير، وبكلِّ ما هو أحسن، وكلِّ ما هو أفضل، وكلِّ ما هو أقوم، كما نراه على أرضنا، وكما نراه في حياتنا.
بل أنَّه علَّمنا أن نرجع إلى الأفضل لو اتَّخذنا قرارًا ليس بأفضل، وأدَّى إلى ما لا نبتغيه، فعلينا أن نرجع عنه، وفي ذلك الكثير من الأحداث في حياته التي علَّمنا فيها ذلك.
عباد الله: نسأل الله: أن يوفِّقنا لما فيه صلاحنا، ولما فيه نجاتنا، ولما فيه خيرنا وصلاحنا، نعلم أنَّ دعوتنا ومنهجنا قد يُقبَل وقد لا يُقبَل، ولكنَّنا نعمل بما تعلَّمنا، وهو أن نُوضِّح ما نرى أنَّه الخير، وأن نرجع عنه إن وجدنا فيه شرًّا، فنستغفر الله دائمًا، ونتَّجه إلى الله دائمًا أن يغفر لنا، وأن يجعلنا من "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ"، ومن الذين يرجعون إلى الحقِّ، فالرُّجوع إلى الحقِّ فضيلة.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النَّاس حولنا.
اللهم ونحن نتَّجه إليك، ونتوكَّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلَّا إليك.
اللهم فاكشف الغمَّة عنَّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السَّاعة ذنبًا إلَّا غفرته، ولا همًّا إلَّا فرجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلَّا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق