حديث الجمعة
29 جمادى الأول 1436هـ الموافق 20 مارس
2015م
السيد/ علي رافع
حمداً لله،
وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
عباد الله: يا من ترجون لقاء الله، ويا
من تجتمعون على ذكر الله، حديث الحق مُوَجَّهٌ لكم، تلمسه قلوبكم، وتنير به عقولكم،
وتتزكَّى به نفوسكم، وتتطهر به أرواحكم. أما غيركم، فحديث الحق لا يجد مكاناً عندهم،
لا تلمسه قلوبهم، ولا تنير به عقولهم، ولا تتزكَّى به نفوسهم، ولا تتطهر به أرواحهم،
"...صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ"[البقرة 171].
إن الذي يَصْدُق مع حقيقة هذه الحياة، التي نعيشها
ونحن في حجابٍ من ظلام، أعمالنا قائمةٌ على الاعتقاد وليس الجزم. فهناك من يعتقد في
وجود ما وراء هذا الكون، ويعتقد أن له حياةً ممتدة، ويعتقد أن كل ما يعمله على هذه
الأرض له أثرٌ على حياته الأخروية، وهذا ما نجده في آياتٍ كثيرة "...مَنْ آمَنَ
بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ
يَحْزَنُونَ"[المائدة
69].
وهناك من لا يعتقد في ذلك، يعتقد في وجوده الماديّ،
وفي عاجل أمره، ولا يرى إلا عند قدميه. وهذا ما قاله الناس في سابقٍ، وفي حاضرٍ أيضاً،
وفي لاحقٍ سيقولونه: [أرحامٌ تدفع، وأرضٌ تبلع، وما يهلكنا إلا الدهر](1)، لا ينظرون إلا إلى حياةٍ عابرة، ويعتقدون في ذلك اعتقاداً
مطلقاً.
وتحت هذين الفريقين، هناك فِرَقٌ كثيرة. فهناك
من يعتقد بلسانه، ويتفكر ويعتقد أن الاعتقاد محله اللسان، فيقول: آمنت بالله وهو آمن
بشكلٍ يتصوره، وآمنت باليوم الآخر وهو يؤمن بشكلٍ ـ آيضاً ـ يتصوره، ويعتقد أنه يعمل
عملاً صالحاً بتصورٍ قام فيه بأنه الحق المطلق. وفي واقع الأمر، فإن هذا الفريق أيضاً،
يتوافق مع من لا يعتقد في شيءٍ، بأن كلاهما يتصور صورةً ويعبدها ويقدسها، ويعتقد أنها
الحق المطلق.
لذلك، يمكن أن نتأمل الفريقين من وجهة نظرٍ أخرى،
أن هناك من يعرف قدره، يعرف أنه مفتقرٌ إلى الحق والحقيقة، وأن وجوده على هذه الأرض
في هذا الحجاب من الظلام، لا يُمَكِّنه أن يحكم حكماً مطلقاً على أي شيء. لذلك، فهو
يتحفظ على كل ما يدرك ويقول، ويحاول أن يبحث عن الحقيقة دائماً.
والحقيقة بالنسبة له، هي حقيقةٌ نسبية، معيارها،
هو ما يرى فيه صلاح الكون حوله. ويعتقد أنه مهما كان له تصورٌ عن معنى حياته، فهذا
التصور ناقص. وأنه يسمع لكل قولٍ يُقال ولا يرفضه، بحثاً عن ما هو أفضل وأحسن وأقوم.
هذا الفريق، نستطيع أن نقول عنه أنه من يخشى الله، إنها خشية الله "...إِنَّمَا
يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء..."[فاطر 28].
فالعالِم، هو من يبحث دائماً، ولا يطلق آراءاً
مطلقة، وإنما يبحث ويبحث ويحلل؛ لأنه يدرك أن الحق والعلم لا نهاية لهما. فأي إنسانٍ
عالِمٍ، لا يستطيع أن يطلق حكماً خالصاً بأن الدنيا هي كل شيء؛ لأنه حين يتفكر ويتأمل،
سوف يجد أن هناك بعداً لا يعرفه هو، لا يُمَكِّنه من إطلاق هذا الحكم، وإنما يستطيع
أن يقول أنه يعمل على هذه الأرض بمعاييرها ومقاييسها، وما يراه هو خيراً لها، ويعلم
أن هذا الذي يراه هو أمرٌ نسبيّ، قد يتغير مع الوقت.
هذا الاعتقاد فيه إيمانٌ بالغيب؛ لأنه لم يضع
ما يراه هو في يومه وفي لحظته، أنه حقٌ مطلق، وآمن بأن هناك ما لا يعلمه، وهذا تعبير
عن "الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ..."[البقرة 3]. فكل فريقٍ أياً كان معتقده فيما نطلق عليه الدين ـ فالقضية ليست شكلاً، وليست
صورةً، وليست إسماً، وليست لساناً ينطلق بكلمات، وإنما هي واقعٌ وعملٌ وتعاملٌ يقوم
فيه الإنسان، يحترم قدرته على الرؤية، ويعرف ويعترف بقصوره عن أن يكون عالِماً مطلقاً.
فإذا تجردنا من الأسماء والصور والأشكال، ونظرنا
إلى واقعنا، لوجدنا أن الواقع يعلمنا أن يكون الإنسان مفتقراً إلى العلم والمعرفة،
ومفتقراً إلى الحق والحقيقة، قد نطلق على ذلك أنه الافتقار إلى الله "يَا أَيُّهَا
النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ"[فاطر 15]. فالله هوالحق المطلق، وهو العدل المطلق، ونحن نفتقر إلى هذا دائماً.
فالقضية إذاً، هي حال الإنسان، وقيامه في عمله
ومعاملاته، في هذا الحال، سواء قال إني فقيرٌ إلى الله، أو قال إني فقيرٌ إلى الحق،
أو قال إني فقيرٌ إلى العلم بإطلاقه، أو إني فقيرٌ إلى الخير، ما هو الخير؟ ما هو الحق؟
ما هو الصالح الذي يجب أن أفعله؟ مفتقرٌ دائمٌ إلى ما يراه أنه الأحسن والأفضل والأقوم.
هذا الإنسان صادقٌ مع واقعه، حتى إذا كان مؤمناً
بكتاب الله وبرسول الله، إلا أنه يدرك أن فهمه وقراءته هي قراءةٌ نسبية ـ كما نقول
دائماً ـ ويعلم ويؤمن بأن كل من سبقوه كانت قراءتهم نسبيةٌ أيضاً. فلا يضع قول إنسانٍ
أياً كان في أنها المعرفة المطلقة. وبذلك، لن يجعل من أي قولٍ سابقٍ رباً يعبده، وإنما
سوف يتفكر ويتأمل فيما يجب هو عليه أن يفعله اليوم.
إن الذي يخشى الله حقاً، سوف يتردد ألف مرة حين
يأتي بفعلٍ يتنافى مع إنسانيته، ويتنافى مع مبادئ أساسية جاءت في كتاب الله.
فحين نقرأ الآية "...مَن قَتَلَ نَفْسًا
بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا
وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا..."[المائدة 32]، فكيف لا يتردد ألف مرة حين يجد قولاً من أقوال السابقين يبيح له القتل، هل
سوف يتبع هذا القول دون أن يتردد، ودون أن يسأل نفسه: هل هو أهلٌ لأن يقوم بهذا القتل؟
أم أنه سوف يقرأ تلك الآية بتعمقٍ وتفَهُّمٍ،
مما يجعله يسأل نفسه ألف مرة قبل أن يقدم على هذا العمل الذي يجعله في معنى "...فَكَأَنَّمَا
قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا...".
خشية الله، هي أساس النجاة؛ لأنها تعبر عن صدق
الإنسان مع واقعه. ومن صَدَق مع واقعه كان في خشية الله، كان مفتقراً إلى الله، كان
في معنى العبودية لله، سواء قالها، أم لم يقلها بلسانه؛ لأن كل هذه المعاني هي حالٌ
قبل أن تكون قولاً.
[فالله لا ينظر إلى صوركم، وأقوالكم، وإنما
ينظر إلى قلوبكم، وأفعالكم](2). قلوبكم، تعبر عما تعتقدونه حقاً. وأفعالكم،
تعبر عما تقومون به فعلاً. وهذا معنى "وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ"[الذاريات 6]، واقع الحياة، وواقع الصدق، وواقع ما نحن قائمون فيه من قدرةٍ نسبيةٍ على معرفة
الأشياء.
عباد الله: نسأل الله: أن نكون حقاً فيمن
يخشونه، وفيمن يتَّقونه، وفيمن يسألونه، وفيمن يدعونه، وفيمن يطلبونه، وفيمن يقصدون
وجهه، وفيمن يجتمعون على ذكره وعلى طلبه وعلى مقصود وجهه.
فحمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً وسلاماً عليك
يا رسول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم:
أن واقع الإنسان الذي يعيشه، وصدقه مع هذا الواقع، هو الذي يجعله في خشيةٍ لله، وقد
عبرت الآيات عن ذلك "...إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء...".
والعلماء هنا ـ إذا تأملنا فيها ـ نجدها معنى العالِم دون التقيد بأن نقول أن هذا
عالِماً في الدين. ففي واقع الأمر، ليس هناك هذا التعبير.
العالِم، هو سلوك وهو منهج. والدين، ليس عِلماً
يخضع للبحث والتقدير بعقولنا المقيدة. الدين، هو منهج حياة، له أبعاده المختلفة. قد
نقول عالِماً في اللغة، يستطيع أن ينير لنا طريقاً للفهم، بقدرته على معرفة أصول الكلمات
واستخدامها. أو عالِماً قرأ كثيراً عن الآيات ونزولها، أو عن المفاهيم المختلفة لتطبيق
الأحكام وتنفيذها، فهو عالِمٌ عن هذه الجزئية، وهذا ليس الدين بمعناه المطلق. أو عالِماً
في الطبيعة، أو الكيمياء، وهذا لا يعني أن عِلمه مطلقٌ، إنما هو عِلمٌ محدودٌ بما عَلِمَه
وعرفَه وأحاط به.
بكل هذه الأمور، نجد سِمَة العالِم أنه دائماً
يبحث عما هو أفضل وأحسن وأقوم، وأنه لا يستطيع أن يقول بصورةٍ مطلقة عن أمرٍ أنه حقيقيّ
مائة في المائة، وإنما يقول أن هذا ما عرفته، وهذا ما عَلِمته حتى الآن.
لذلك، نجد في العلم التطبيقيّ، أن مهما كانت
هناك قوانين ظنها البعض أنها ثابتة لا تتغير، إلا أنه اكتشف لاحقاً أن هذه القوانين
لها ظروفها التي تُطبَّق فيها، وأنه لو تغيرت هذه الظروف، لم تعد هذه القوانين فاعلة.
فقوانين السرعة والجاذبية، وكل هذه الأمور، هي
صالحةٌ في بيئةٍ محدودة. وإنما إذا خرجنا إلى هذا العالم الفسيح، إلى هذا الكون اللانهائي،
خرجنا فقط عن محيط كوكبنا، أو دخلنا في أعماق هذا الوجود إلى حركة الذرات وما فيها
من مكونات، سوف نجد أن هذه القوانين تختلف، ومهما توصلنا، فسوف نعلم أن هناك ما لا
نعلم.
سِمَة العالِم، أنه يعرف حدوده. ولذلك كانت الآية
"...إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء...".
إنما الذي لا يعلم فهو يُعطِي أحكاماً
مطلقة، عنده الحقيقة مطلقة فيما يعتقده هو. وهذا المدخل هو ما يجعل الإنسان يبتعد عن
معنى العبودية لله، وعن معنى الافتقار إلى الله، أياً كان الكلام الذي يلوكه بلسانه،
بإيمانٍ بالله، أو بإيمانٍ باليوم الآخر، أو بأنه يعمل عملاً صالحاً.
فالذي يعمل عملاً صالحاً، هو الذي لا يقول أنه
يعمل عملاً صالحاً، وإنما يرجو الله أن يكون عمله صالحاً، وأنه دائماً يتهم نفسه، "وَمَا
أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ..."[يوسف 53].
وها هو الحق يحدثنا عن الذي يُعطِي، ويعتقد أنه
كريمٌ ومعطاءٌ، وهو في الحقيقة لا يفعل ذلك إلا رغبةً في أن يُشار إليه بالبنان، والذي
يُعلِّم ولا يُعلِّم بحق، إنما ليقولوا عنه عالِماً. حين ننظر إلى هذه الأحاديث التي
تخبرنا بذلك، فإننا نزداد خشية، ونزداد افتقاراً، ونقول دائماً أستغفر الله، نستغفر
الله دائماً في كل وقتٍ وحين(3).
هذا ما نتعلمه دائماً، وما تعلمه السابقون الذين
سبقونا في هذا الفهم، يوم علمونا أن نكون فقراء إلى الله، ويوم علمونا أن [رُبَّ معصيةً أورثت ذلاً وانكساراً، خيرٌ من طاعة أورثت عزاً
واستكباراً](4)، ويوم تعلمنا ذلك من رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه
ـ وهو يقول لنا: [ها أنا رسول الله بينكم، ولا أدري ما يُفعَل بي غداً](5).
هذا الحال، هو قمة التوافق مع قيام الإنسان على
هذه الأرض في حجابٍ من ظلام، وهذا ما نصبو إليه؛ لأن الرسول وهو يقول ذلك، هو في حالٍ
لسنا عليه، إنما نرجو أن نكون عليه وأن نصل إليه، وأن نحاسب أنفسنا حساباً عسيرا، حتى
نقترب من هذا الحال.
اللهم وهذا حالنا وهذا قيامنا، نتجه إليك، ونتوكل عليك، ونوكل
ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك.
اللهم فاكشف الغمة عنا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من
حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين،
عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا
الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذا الساعة ذنباً إلا غفرته، ولا هماً
إلا فرجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلا قضيتها، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا فقيراً
إلا أغنيته.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا،
يا أرحم الراحمين ارحمنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق