حديث الجمعة
13 محرم 1438هـ الموافق 14 أكتوبر 2016م
السيد/ علي رافع
حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً
وسلاماً عليك يا رسول الله.
نستعين بالله ونستنصره، ونعوذ
به من الشيطان الرجيم، نعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونسأله أن نكون من الذين
هدى، من الذين هداهم الله إلى الطريق القويم والصّراط المستقيم.
عباد الله:
نحن نتدبّر
دائماً في سيرة رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وسيرة أهله الكرام، لنتعلّم من
سيرتهم، لنتعلّم قانون الحياة، لنتعلّم كيف نكون عباداً لله، وأن نُكبِر الله عن أيّ
صورةٍ أو شكل، نُكبِره عن أيّ تصوّرٍ لنا.
فمن ضمن هذه الصّور التي
يصوّرها كثيرٌ من النّاس أنّ الله ناصرهم، وأنّهم أهل الحقّ، فعليه أن ينصرهم في الدنيا
وفي الآخرة بنصرٍ من تصوُّرهم، ويظنّون أنّهم بذلك يؤمنون، ألم يقل الله في كتابه العزيز:
"...وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ"[الروم
47]؟ وهذا كلامٌ حقّ، ولكن ما هو تفسيره في واقع الحياة؟
هل نستطيع أن نضع لهذا النّصر
صورةً وشكلاً ومعاييراً ومقاييساً، أم أنّ هذا النّصر ككلّ قولٍ في كتاب الله هو غيبٌ
عنّا لا نستطيع أن نحدّه بشكل، أو نقصره في صورةٍ محدّدة؟ إنّنا نقول دائماً أنّ
الله أكبر ـ الله أكبر في ذاته، وفي صفاته، وفي أقواله، وأفعاله، وأحواله. علينا أن
نقف دائماً فقراء إليه، لا نعلم شيئاً، ولا نصف أيّ قولٍ، أو إخبارٍ، أو تبليغ، ونحدّه
في شكلٍ وواقعٍ نتصوّره. كيف نتعلّم ذلك؟
لا نستطيع أن نتعلّم ذلك
إلّا من أحداثٍ عظام. وقد حدث ذلك مع آل رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ. فها
نحن نرى الحسين ـ عليه السّلام ـ وهو يخرج مجاهداً، يريد أن يحقّق عدلاً، وأن يرفع
ظلماً، ليكون صادقاً مع ما يراه وما يعتقده، فيجابه قوى الظّلام فلا يتراجع.
مع أنّ البعض قد يقول أنّه
عليه أن يتعامل مع قوانين الحياة التي خبرها وعلمها، لا يقف أمام قوّة ظلامٍ هائلة،
وعليه أن يجاهد بصورةٍ أخرى. وهذا واردٌ كما سنرى في فعلٍ سابقٍ للحسن ـ عليه السلام
ـ.
ولكنّنا نتدبّر دائماً، ونذاكر
دائماً، أنّ الحقّ ليس له صورةٌ واحدة، وأنّ الإنسان
عليه أن يتعامل مع ما يراه في لحظته وفي الموقف الذي يجابهه، فتعدُّد الصّور يجعل الإنسان
عاجزاً أن يختار أيّ صورةٍ. لذلك، فعليه أن يتّجه إلى قلبه وإلى عقله، ويسأل نفسه بحقّ،
يسأل قلبه بحقّ، ما هي الصورة التي يراها اليوم، يراها في هذه اللحظة، لأنّه يعلم ـ
بإيمانه بالغيب ـ أنّ الحقّ في الشيء وضدّه. لكن ماذا يرى هو اليوم؟
لذلك، فنحن حين نفعل وحين
نتصرّف، نحن نتصرّف برؤيةٍ مقيّدةٍ محدودة، ولا نتصرّف بأنّ الله يريد ذلك أو لا يريد
ذلك، سوف يفعل ذلك أو لا يفعل ذلك، فالله فعّالٌ في كلّ صورة.
نصر الله ليس في صورةٍ واحدة.
لذلك، فإن الحسين ـ عليه السّلام ـ رأى الحقّ في ألّا يتراجع وألّا يتخاذل، مع علمه
التّام أنّه ربّما سوف يُقضَى عليه ـ كجسدٍ ـ في هذه المواجهة. علم أنّ النّصر الحقيّ
ليس في نصرٍ ماديّ، ولكن قد يكون في رسالةٍ يرسلها إلى البشريّة، رسالةٌ قائمةٌ دائمة،
رسالةٌ أن يقول الحقّ الذي يراه مهما كانت النتيجة. هذه صورةٌ من صور الحقّ. لذلك،
أقدم على مواجهة هذه القوى المظلمة، ولم يولِّ الأدبار.
كانت النتيجة من ناحية الظّاهر
أنّ قوى الظلام قد انتصرت دنيويّاً، فتكون هذه إجابةٌ لمن يجسّد الأمور دائماً والآيات
دائماً، أنّه لا يجب أن يفعل ذلك. والذي لا يريد أن يتراجع عن التجسيد سوف يرى أنّه
يواجه موقفاً صعباً، فكيف يفسر "...وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ"،
ومن هم المؤمنون الذين هم أكثر إيماناً من الحسين وأهله؟ وتُثار أسئلةٌ كثيرة بعد ذلك
فيها عدم فهم، لماذا لم يؤيّد الله الحسين بقوّةٍ من عنده؟، وندخل في هذا الفهم المرتبك.
وما كان ما حدث إلّا للإجابة
على هذا السؤال وعلى هذا الحال الذي يرسم فيه البعض صوراً للنّصر من تخيُّلهم، هذا
التصوّر المحدود الذي لا يجب أن يكون أبداً في التعامل مع آيات الله. "...وَيَضْرِبُ
اللّهُ الأَمْثَالَ..."[إبراهيم 25]،
فضرب للنّاس مثلاً في هذا الحال وفي هذه المواجهة،
ألّا ترسموا صورةً لنصر الله.
لقد انتصر الحسين بالمعنى
الحقيّ، فقد استمرّت رسالته واستمرّت دعوته، واستمرّت ذريّته، واستمرّ نوره. ماذا خسر
الحسين، خسر حياةً ماديّة؟ "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ..."[الأنبياء
35]، كما قال المسيح
ـ عليه السلام ـ: [رجلٌ كسب الدنيا وخسر الله ماذا كسب، ورجل خسر الدنيا وكسب الله
ماذا خسر](1).
ماذا كسب الذين قتلوا الحسين؟
كسبوا ملكاً عضوضاً، كسبوا دنيا وجاهاً وسلطاناً، هل هذا مكسبٌ في مقابل ما خسروه بغدرهم
وعدوانهم وتسلّطهم، ليس فقط في محاربة الحسين، وإنّما في دولتهم التي أقاموا، وفي تراثهم
الذي تركوا، فيما يحملونه من أوزارٍ لما تركوه، من سنّتهم السيئة التي سنّوها، ومن
أقوالهم الفاسدة التي تركوها.
إنّ نصر الله ليس له صورةٌ
ماديّة، فالصّور الماديّة تتغيّر. فالنّصر الماديّ فقط ليس نصراً، والخسارة الماديّة
فقط ليست خسارة. نصر الله أكبر، يأخذ صوراً متعدّدة، لا نستطيع أن نحدّها أو أن نضعها
في إطار، وإنّما هي صورٌ لا تُحدّ ولا تُعدّ. ولا يعني هذا أن تقلِّد الحسين دون فهمٍ
ودون وعي.
بذلك ضُرِب لنا مثلٌ آخر
فيما عمله وقام به الحسن مع معاوية، من قبل مواجهة الحسين مع يزيد. لقد استُشهِد الإمام
عليّ ـ كرّم الله وجهه ـ وهو في مجابهةٍ مع معاوية لم تنته، فجاء الحسن ـ عليه السّلام
ـ ورأى الموقف كذلك، لم يقلِّد، وإن كان الكثيرون قد يقولون ألا يقلِّد أباه، ألا يسير
سيرة أبيه؟
إنّه اتّجه إلى قلبه، وعلم
أنّ الحقّ له صورٌ كثيرة، وأنّ على الإنسان أن يختار ما يراه هو في هذه اللحظة وفي
هذا الوقت. واتّباع سنّة أبيه ليست في تقليده، ولكن في اتّباع منهج رسول الله ـ صلوات
الله وسلامه عليه ـ في أن يستفتي الإنسان قلبه وعقله، ويزن الأمور بميزان العقل والحكمة.
فعقد صلحاً مع معاوية بشروطٍ
أهمّها ألّا يحدّد من سيأتي بعده، فإذا كان الحسن قد اتّفق معه على أن يوحّد كلمة المسلمين،
وألّا تكون هناك صراعاتٌ داخليّة يُسفك فيها دماء المسلمين، فإنّ عليه بعد أن تنتهي
حياته ـ أي معاوية ـ أن يُرجِع الأمر إلى المسلمين ليختاروا وليحدّدوا من يقودهم، وقبل
معاوية ذلك، ولكنّه نقض هذا العهد، وتآمر على الحسن فسَمَّه.
لكنّ الحسن حين اتّفق معه
كان يرى الحقّ في حُرمة سفك دماء المسلمين، وفي أن يوجّه معاوية إلى طريق الحقّ، غير
رافضٍ وغير مستكثرٍ أن يهدي الله معاوية إلى الحقّ، وأن يُرجِع الأمر إلى أهله، وألزمه
بذلك أمام جميع المسلمين. ولكنّ هيهات أن يلتزم من يرى الدنيا همّه، أن يلتزم بأي عهدٍ،
ولكنّ الحسن قام بذلك برؤيته وبأمله وطمعه في الله، وبأنّ هذا ما يراه.
ما نتعلّمه نحن، أنّ الإنسان
عليه أن يُرجِع الأمر إلى قلبه وعقله، لينظر في كلّ أمرٍ في حياته بمنظار الحقّ الذي
يراه، وليس بما يراه النّاس وبما يقوله النّاس، فإذا شهد ما شهده النّاس، وإذا رأى
ما رآه النّاس، فليكن، وإنّما الأساس أن يستفتي هو قلبه، وألّا يضع لله صورةً، وألّا
يضع لآيات الله صوراً جامدةً، عليه أن يتعلّم ذلك.
عباد الله:
نسأل الله: أن يجعلنا من الذين يقرأون رسائله ويقرأون آياته، فيتعلّمون ويتفقّهون ويمارسون،
وقلوبهم يستفتون، وعقولهم يُعمِلون، وعلى الله يتوكّلون، ويشهدون حقّاً أنّ لا إله
إلّا الله وأنّ محمداً رسول الله.
فحمداً لله، وشكراً لله،
وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
_____________________
الحمد لله، والصّلاة والسّلام
على رسول الله.
عباد الله: ما
أردنا أن نقوله اليوم: أنّ علينا أن نُكبِر الله ورسوله وكلام الله وكلام رسوله، عن
أيّ صورةٍ وعن أيّ شكل. فالله أكبر ـ ليست فقط في أن نُكبِر ذات الله عن أيّ شكلٍ وصورة،
ولكن أن نُكبِر كلّ ما ننسبه إلى الله عن أيّ شكلٍ وأيّ صورة، ونتعلّم أنّ "...اللَّهَ
بَالِغُ أَمْرِهِ..."[الطلاق 3]، مهما
كان الحدث.
فقد نرى حدثاً في ظاهره انتصارٌ
لظلام، فنقول كيف ذلك؟ أليس الحقّ هو دائماً المنتصر؟، إنتصار الحقّ ليس له صورة، انتصار
الحقّ بمعنى الانتساب لله، بأنّ الحقّ هو ما يُنسب لله، هو قائمٌ دائم، أيّاً كان حال
الدنيا.
وأيّ وصفٍ لحالٍ في الدنيا
نقرؤه في كتاب الله، هو قائمٌ بمعناه الحقيّ المتعالي عن الصّورة والشّكل. ونحن إذا
كان لنا دور فإنّنا حين نريد أن نقوم في هذه الصّورة التي قيلت لنا، فنحن نقوم فيها
لأنّنا نحن الذين نرى أن هذه الصّورة هي الحقّ على ما نعلمه.
ولنضرب مثلاً على ذلك، الحقّ
يعلّمنا أنْ "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"[آل
عمران 104]، إنّا حين نريد أن نقيم هذه الأمّة فنحن نقيمها
بتصوّرنا عن معنى الخير، وبتصوّرنا عن معنى المعروف، وتصوّرنا عن معنى المنكر.
لا نقول أنّ الخير كما أمر
الله هو كذا وكذا وكذا، فنحن لا نعلمه، ولا نقول أنّ المعروف كما أمر به الله هو كذا
وكذا وكذا، ونحدّه، فنحن لا نعرفه، وأنّ المنكر هو كذا وكذا وكذا كما قال الله، فنحن
لا نعرفه، إنّما نحن نعرف الخير بفطرتنا، ونعرف المعروف بفطرتنا، ونعرف المنكر بفطرتنا.
لذلك، نجد هذا التباين فيما
يحدث، فالمتشدّدون المتعصّبون يرون الخير في صورةٍ ما، يتصوّرون أنّ الخير ألّا يوجد
على هذه الأرض من لا يدين بدين الإسلام، فالخير عندهم أن يقتلوا كلّ كافرٍ، وكلّ كافرٍ
هو من هو غير مسلم، فهذا عندهم هو الخير، والمعروف كذلك هو أن يطبّقوا شرع الله كما
يتصوّرون أنّ الله أمر به في صورٍ وأشكالٍ هم الذين اعتقدوها وتصوّروها، وهكذا. والمنكر
كذلك بالنّسبة لهم. فهل هذا الذي يتصوّرون هو الخير كما أمر الله؟ إنّه ما يرونه هم.
ولذلك، فإنّ الإنسان حين
يكون متعاملاً مع الله فإنّه يكون حذراً في أن ينسب إلى الله أمراً، وإنّما عليه أن
يعلم أنّ ما أمر به الله هو أن يرجع إلى فطرته، فالخير الذي يراه هو، هو ما يفعله،
ويكون دائماً مراجعاً نفسه، فإذا وجد في الخير الذي يعتقده نقصاً صوّبه، وعنه رجع إلى
خيرٍ آخر. هذه هي خشية الله، خشية العلماء، "...إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ
عِبَادِهِ الْعُلَمَاء..."[فاطر 28]،
لا يغترّون بعلمهم، ولا يغترّون بظنّهم، وإنّما يُكبِرون الله دائماً عن أيّ صورةٍ
أو شكل.
عباد الله:
إنّ علينا أن نتّجه إلى الله بقلوبنا أن يساعدنا أن نرى ما يُصلِح حالنا، وما يُصلِح
حال أمّتنا، وما يُصلِح حال مجتمعنا، مُكبِرين الله عن أيّ صورةٍ أو شكل، وإنّما نسأله
مدداً يعيننا أن نكون مدركين ما أودع في فطرتنا، وأن تكون أهدافنا خالصةً لنقيم الحقّ
بيننا، ولنكون أهلاً للحقّ في أعمالنا، وفي أحوالنا، وفي أفعالنا، أن نفعل ما يحيينا،
وما يحيي قلوبنا، ويحيي عقولنا، ويجعلنا أحياءً عند ربّنا نُرزق.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى
عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النّاس حولنا.
اللهم ونحن نتّجه إليك، ونتوكّل
عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلّا إليك.
اللهم اكشف الغمّة عنّا،
وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا،
وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين،
لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا
اتّباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه
السّاعة ذنباً إلّا غفرته، ولا همّاً إلا فرّجته، ولا مريضاً إلّا شفيته، ولا دَيْناً
إلّا قضيته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلّا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا،
واعف عنا.
يا أرحم الراحمين ارحمنا،
يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا أرحم الراحمين ارحمنا.
___________________________
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق