حديث الجمعة
20 محرم 1438هـ الموافق 21 أكتوبر 2016م
السيد/ علي رافع
حمداً لله، وشكراً لله، وصلاةً
وسلاماً عليك يا رسول الله.
الحمد لله الذي جمعنا على
ذكره، وعلى طلبه، وعلى مقصود وجهه.
الحمد لله الذي جعل لنا بيننا
حديثاً متّصلاً نتواصى فيه بالحقّ والصبّر بيننا، نتدبّر أمور حياتنا في دنيانا وفي
آخرتنا، متأمّلين في آيات الله وفي أحداث الحياة، لنصحّح مسارنا، ولنقوِّم أمرنا، ولنُحيي
قلوبنا، ولنُنير عقولنا، ولنزكّي نفوسنا ـ مدركين أنّ ما ندركه عن الحقّ هو أمرٌ نسبيّ،
نراه حقّا بما آمنّا من أمورٍ هي حقائق أساسيّة بالنّسبة لكلّ إنسان.
فكلّ إنسانٍ عنده مجموعةٌ
من الحقائق الفطريّة تخصّه، وهو يبني على هذه الحقائق الفطريّة ما يعتقده وما يؤمن
به. إذا اختلفت هذه الحقائق الفطريّة من إنسانٍ لإنسان، كانت الحقيقة عند إنسانٍ مختلفةً
عمّا يعتقده إنسانٌ آخر، ومن ثَمّ فإنّه لا يمكن أن نشير إلى فهمٍ ما على أنّه صواب،
وعلى فهمٍ آخر على أنّه خطأ.
وإنّما ما نستطيعه كأفراد،
كلّ فردٍ عليه أن يبيّن ما يعتقده في هذا الفهم، ويوضّح لماذا قال عن هذا الفهم أنّه
صواب بالنّسبة له. هذا ما يجب أن يتدرّب الإنسان عليه حتّى لا يصف أموراً بأنّها الصّواب
فيكون ـ في تصوّره ـ أنّه الصّواب المطلق، مع أنّه بنى معتقده - وإن كان لا يدري ـ
على أمورٍ يعتقدها هو أقل درجةٍ مما قال به.
هذا التسلسل الهرميّ في الفكر
الذي يبدأ بمفرداتٍ مسلّماتٍ عند الإنسان، وليست لأنّها مسلّماتٍ عند إنسانٍ آخر، يجب
أن يبحث الإنسان عن هذه المسلمات التي يعتقدها والتي يؤمن بها في أعماقه. وهو أمرٌ
يحتاج إلى تدريب، ويحتاج إلى تفكّرٍ وتدبّرٍ وتأمّل، ويحتاج إلى ذكرٍ ودعاء، ويحتاج
إلى خلوص نيّة وتطهُّر طويّة، حتّى يمكن أن يصل الإنسان إلى أعماق أعماقه.
هذا سرّ الإنسان، سرّ الإنسان
الذي خلقه الله "...فِي كَبَدٍ"[البلد
4]، يحسب هذا الإنسان "...أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ
أَحَدٌ"[البلد 5]،
هذا الإنسان في ظلمانيّته، في تكبّره، في اعتزازه بفهمه، في تكبّره على الناس، في اعتقاده
أنّه يملك، وأنّه يستطيع.
"أَيَحْسَبُ أَن لَّن
يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ"[البلد 5].
لماذا يقول هذا؟ لأنه ظنّ بما يملكه على هذه الأرض أنّه قد ملك الدنيا ومن عليها، "يَقُولُ
أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا"[البلد 6]،
إنّه يفعل، إنّه ينتج ،إنّه يكسب، إنّه يكنز، إنّه يأمر البعض فيطيعونه، هذا هو الإنسان
في ظلامه.
أيستطيع الإنسان وهو في هذا
الظلام أن يشعر أنّ فيه معنىً حقيّ يَرى ما يفعله بظلمانيّته، أم أنّه يعتقد أنه لا
يُرى، أنّه عالمٌ قائمٌ بذاته، يَرى ولا يُرى، هو يَرى لأنّه يعتقد أنّه يملك كلّ شيء،
يَرى الدنيا ويَرى طريق الكسب فيها، ويَرى ما يجب أن يفعله ليكون أغنى وأقدر وأقوى،
ليكون حاكماً، ليكون مالكاً، ليكون آمراً فيُطاع، لقد عرف مسلك الدنيا، "أَهْلَكْتُ
مَالًا لُّبَدًا".
"أَيَحْسَبُ
أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ"[البلد
7]، هو يَرى ولا يُرى، لأنّه إذا كان يعتقد أنّه يُرى، يعلم
أنّ هناك قوةً أكبر منه، وأنّه لا يمكن أن يصف نفسه بالقادر فهناك من هو أقدر منه،
ولا يمكن أن يصف نفسه بالغنيّ لأنّ هناك من هو أغنى منه، ولا يستطيع أن يصف نفسه بالحاكم
لأنّ هناك ما يحكمه ومن يحكمه.
إذا كان لا يرى أنه يُرى،
الحقّ يخاطب ما فيه من نورٍ ـ فلا يخلو إنسانٍ من نورٍ مهما ظَلُم ـ ويوجّهه إلى كيف
يستطيع بهذا النور أن يخرج من هذا الظلام. فيوجّهه إلى ما أعطاه من طاقاتٍ وإمكاناتٍ
وقدراتٍ ليرى الحقائق ويتعمّق فيها، ليصل إلى المبادئ التي يجب أن يبني عليها، بنفسه
هو، برؤيته هو، بذكره هو، بما يملكه هو.
"أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ
عَيْنَيْنِ"[البلد 8]،
والعينان هنا ليست فقط الرؤية البصريّة، ولكن رؤية حقيّة، رؤية إدراكيّة، عنده القدرة
أن يعكس البصر إلى داخله، أن يغوص في أعماق نفسه، باحثاً عن الحقائق التي يمكن أن يبني
عليها، يبحث عن قواعد البيت التي يبني بيت الله فيه عليها.
لقد أعطيناك يا إنسان هذه
القوّة وهذه القدرة، جعلنا لك عينين، وكذلك جعلنا لك ما تعبّر به عمّا أوجدنا فيك،
فتُخرِج معرفتك إلى الآخرين، فربّما يستفيدون بها، وربّما تؤثّر بها فيمن يحيط بك،
في مجتمعك وفي بيئتك وفي كونك. "وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ"[البلد
9]. واللسان والشفتان هنا يرمزان ـ كما نتأمّل ـ في إخراج
المعرفة من الداخل إلى الخارج، في القدرة على التأثير في محيطك وفي بيئتك.
واعلم أنّك إن كنت ترى في وجودك ظلاماً، فهكذا خلقناك وإلى هذا هديناك،
ففيك الأمران وفيك الحالان، "وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ"[البلد
10]. لا تتعجب من أنّك مع كلّ فهمك هذا فيك ظلام، فالظلام
موجودٌ في كلّ إنسان، [كل
ابن أنثى مسّه الشيطان، إلّا ابن مريم](1)، [كان لي شيطان ولكن الله أعانني عليه فأسلم، فهو لا
يأمرني إلّا بخير](2).
إذا أردت أن يعينك الله على
ما فيك من ظلام، ما فيك من شيطان، ما فيك من نفسٍ أمارةٍ بالسوء، فلتقتحم هذه العقبة،
عقبة الظلام وهي صفاتك التي تزيدك ظلاماً على ظلام، عقبة الأنانيّة، عقبة الملكيّة،
عقبة التكبّر، عقبة العظمة.
ما هي هذه العقبة؟ "وَمَا
أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ"[البلد 13،12] ،
أن تعبّر عن خلوص نيتّك وعن أنّك تريد أن تخرج من هذا الظلام، بأن تُخرِج ممّا ملكت
على هذه الأرض، تعطي ممّا أعطاك الله، تغيّر حال إنسانٍ من حالٍ إلى حال، تغيّر حالك
من حبّ الامتلاك وأن يكون لك عبيد إلى أن تخرج من هذا الحال، تخرج إلى حال افتقارٍ
إلى الله، إلى حال عبوديّةٍ لله، إلى حالٍ تعطي فيه.
هكذا عبّرت الآيات، "فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيمًا
ذَا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ"[البلد 16:13] ،
إحساس الإنسان بتوحّده مع كلّ الكائنات، أنّهم قيامٌ واحد، أنّهم جسدٌ واحد. فإذا استطاع
أن يعطي مما أعطاه الله فليُعطِ بقدر ما يستطيع، فهذا اقتحامٌ له لعقبة نفسه، كلّ هذا
يساعده أن يجد ما يؤمن به.
"ثُمَّ كَانَ
مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ"[البلد: 17]، الصبّر، لأنّه يعلم أنّ الطريق طويل
وأن عليه أن يثابر وألّا يقف ويقول اكتفيت بهذا، علمت هذا وكفى، آمنت بهذا وكفى، مطلوبٌ
منه أن يتعمّق أكثر وأن يبحث أكثر، حتّى يكون حقّاً من أهل الميمنة، أن يكون من الأحياء
عند ربهم يُرزقون، أن يكون من عباد الله الصالحين.
هكذا نتعلّم، نتعلّم طريق
البحث في أنفسنا عن الحقائق القائمة فينا، عن الإيمان الموجود فينا، لنعرف معنى الحقّ
ومعنى الحياة.
نسأل الله: أن يوفّقنا لذلك،
وأن يجعلنا أهلاً لذلك.
فحمداً لله، وشكراً لله،
وصلاةً وسلاماً عليك يا رسول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصّلاة والسّلام
على رسول الله.
عباد الله:
ما أردنا أن نقوله اليوم: أنّ على الإنسان أن يبحث عن حقائق الحياة في أعماق وجوده،
وأنّه ليفعل ذلك عليه أن يتخلّى عن ظلمانيّته، وأن يستخدم ما أعطاه الله من طاقاتٍ
وإمكاناتٍ في الرؤية بالقلب وبالعقل وبالجوارح، فيبحث عن هذه الحقائق في أعماقه.
وليفعل ذلك، وليكون قادراً
بعد ذلك على إخراج ما يجده من حقائق فيه، عليه أن يقتحم عقبة نفسه بحبّها للامتلاك،
بأن يمارس العطاء على جميع المستويات، ليتحرّر من عظمته، ويكون فقيراً إلى الله، مدركاً
معنى العبوديّة لله، متعاملاً مع الله في كلّ حالٍ وقيام.
هذا ما نتعلّمه من آيات الله
لنا، وممّا نشهده في حياتنا، وفي تعاملاتنا، وفي سلوكنا، وفي ذكرنا، وفي تفكّرنا وتدبّرنا،
في كل لحظةٍ من لحظات حياتنا نشهد أنّ لا إله إلّا الله ونشهد أن محمدا رسول الله.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى
عليك، تعلم ما بنا وتعلم ما عليه النّاس حولنا.
اللهم ونحن نتّجه إليك، ونتوكّل
عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلّا إليك.
اللهم فاكشف الغمّة عنّا،
وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنّا شرور أنفسنا،
وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين،
لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا
اتّباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه
السّاعة ذنباً إلّا غفرته، ولا همّاً إلّا فرّجته، ولا مريضاً إلّا شفيته، ولا حاجةً
لنا فيها رضاك إلّا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا،
واعف عنا.
ربّنا آتنا من لدنك حسنةً،
وقنا شرور أنفسنا، واجعلنا لك خالصين.
"رَّبَّنَا إِنَّنَا
سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا
فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ"[آل
عمران: 193].
___________________________
(1) حديث شريف "كل مولود من
بني آدم يمسه الشيطان بأصبعه إلا مريم ابنة عمران وابنها عيسى عليهما السلام
" مسند أحمد وأيضاً أخرجه كلاً من البخاري ومسلم بصيغ مشابهة.
(2) جاء
الحديث في مسند أحمد بن حنبل بصيغ متعددة منها " ليس منكم من أحد إلا وقد وكل
به قرينه من الشياطين قالوا وأنت يا رسول الله قال نعم ولكن الله أعانني عليه فأسلم
" . وأيضاً " ما منكم من أحد إلا ومعه قرينه من الملائكة ومن الجن قالوا
وأنت يا رسول الله قال وانا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم ولا يأمرني إلا بخير"
وكذلك : " فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم قلنا ومنك يا رسول الله قال ومني
ولكن الله أعانني عليه فأسلم " كذلك جاء بصيغ مختلفة عند مسلم والترمذي والنسائي
والدرامي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق