السبت، 21 أبريل 2018

العلاقة بين الظّواهر الكونيّة وبين نفس الإنسان


حديث الجمعة 
4 شعبان 1439هـ الموافق 20 أبريل 2018م
السيد/ علي رافع

حمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
الحمد لله، والحمد دائمًا لله، والشّكر دائمًا لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
عباد الله: إنّا حين نتأمّل في آيات القرآن، في كثيرٍ من السّور، نجد أنّها تبدأ بالقسم بظواهر كونيّة، "وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ، وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ، وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ"[الليل 1 ـ 3]، "وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا، وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا، وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا، وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا، وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا"[الشمس 1 ـ 7]، "إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ، وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ، وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ، وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ، عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ"[الإنفطار 1 ـ 5].
نجد في كثيرٍ من السّور، هذه العلاقة بين الظّواهر الكونيّة، وبين نفس الإنسان "وَمَا سَوَّاهَا"، فماذا نتعلم من ذلك؟ فكلّ آيات القرآن، هي رسائل للإنسان، تُبلّغه أمرًا، وترشده إرشادًا.
الليل والنّهار، "وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا، وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا، وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا"[النبأ 9 ـ 11]، آية الليل وآية النّهار، وارتباط ذلك بالإنسان، بأن جعله ينام ويستيقظ. وإن "اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ..."[الزمر 42]، فنوم الإنسان، هو ضرورةٌ من ضرورات استمرار الحياة على هذه الأرض. وحين يُصاب إنسانٌ بقلقٍ لا يُمَكِّنه من النّوم، فإنّ حياته تختلّ، ولا يستطيع أن يستمرّ في هذه الحياة.  
فظاهرة الليل والنّهار، مرتبطةٌ بحياة الإنسان. وكلّ الظّواهر الكونيّة لها علاقةٌ بالإنسان. فالإنسان في حاجةٍ لأن يسعى على هذه الأرض، وهذا نهاره، نهاره الذي يستطيع أن يرى فيه بعينيه، رمزًا على كلّ ما يستطيع أن يتعلّمه من ظاهر هذه الحياة.
النّهار، هو الشّهادة، هو كلّ ما هو مشهودٌ للإنسان، سواء كان ذلك بعينيه، أو بعقله أيضًا، فما يستطيع أن يعقله بعقله الذي يملكه في هذا الجسد، هو نهارٌ، هو حالٌ يقوم فيه في معنى النّهار، في معنى الشّهادة. ولذلك، فعلى الإنسان أن يسعى في حال شهادته، في تفاعله مع كلّ ما هو مشهودٌ له.
والليل، تعبيرٌ عن حال الإنسان في حجاب، في قيامه في حجاب، لا يرى، أشياءٌ كثيرة لا يراها ولا يعرفها، ولا يستطيع أن يعرفها، وهذا ما يرمز له الليل. والنّوم، هو تعبيرٌ عن تسليم الإنسان وجوده لله.
وفي الدّعاء المأثور عن رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فيما قبل النّوم: [اللهم إنّي أسلمت نفسي إليك، وفوّضت أمري إليك، رهبةً ورغبةً إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلّا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبرسولك الذي بعثت](1)، تعبيرٌ عن حاله في شهادته، فقد وصل في شهادته أن يعلم أنّ هناك غيبًا، وأنّ هذا الغيب، قد أرسل رسوله، وبلّغ رسالته.
من هنا، فهذا الدّعاء تعبيرٌ عن حال الإنسان، قبل أن يدخل مرحلة السّبات، التي هي غيبٌ عليه، يدخل في حالٍ فعليّ، لا يستطيع أن يفعل شيئًا، أو أن يقدّم شيئًا، أو أن يفهم شيئًا ـ إنّه حالٌ من التّسليم الكامل، يرجو وهو في هذا الحال، أن يكون أهلًا لرحمة الله، ولفضل الله، ولعطاء الله، ولتوفِيَة الله له.
إن "اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا"، يُوفِيه، يُكمِله، يفيض عليه، يُعطيه، يرحمه، يغفر له، يُغيّر فطرته، يُضيف إليها، ينتزع منها ظلامه، فقد أسلم الإنسان نفسه إلى الغيب. وهذا الحال، يمكن أن يستحضره الإنسان، وهو متيقّظٌ بجوارحه، في تسليمه الكامل لله.
لذلك، نرى كيف أنّ ظاهرةً كونيّة، يمكن أن ترسل لنا رسالة، وهذا ما نتأمّله في الرّبط بين القسم بهذه الظّواهر الكونيّة، وبين القسم بنفس الإنسان، " وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ، إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ"[الليل 4،3] ـ في بداية السّورة، "وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ، وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ"، أيضًا، تتكلم عن الليل والنّهار، وخَلْق الذّكر والأنثى، خَلْق الإنسان على وجه العموم، أيًّا كان جنسه، وأيًّا كان نوعه، وأيًّا كان شكله، وأيًّا كانت صورته.
"إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ"، "وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا"، فأنت في سعيك على هذه الأرض ـ كما قلنا ـ النّهار هو معاشك، هو سعيك، هو عملك المشهود، هو تفاعلك مع ما هو مشهود. وهذا التّفاعل، إمّا أن يكون في طريق الصّلاح، وإمّا أن يكون في طريق الطّلاح.
كذلك، نرى ذلك، "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا"[الشمس 7، 8]، تتناسب مع: "إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ"، "فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ"[الليل 5 ـ 7]، "قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا"[الشمس 9]، تتناغم مع هذا المعنى. "وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا"[الشمس 10]، "وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ"[الليل 8 ـ 10]. نجد هذا القانون السّاري دائمًا، في قديمٍ وفي حاضرٍ وفي قادمٍ، "... مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ ..."[هود 108].
لذلك، نجد الإشارة إلى السّماء والأرض، أيضًا، في بداية السّور، "وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا، وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا"، إشارةٌ أيضًا إلى الغيب والشّهادة، بصورةٍ أخرى. فالسّماء، ترمز إلى الحياة ما بعد هذه الأرض. والأرض، ترمز إلى الحياة عليها، والوجود المادّيّ عليها. وأنّ فعل الإنسان على هذه الأرض، كما هو له أثرٌ على هذه الأرض، فله أثرٌ على الإنسان فيما بعد هذه الأرض. نجد ذلك في آياتٍ كثيرة، "... مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا ..."[اليقرة 62].
وأنّ الإنسان سوف يعلم ذلك، "عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ"، وهي لحظة الفصل بالنّسبة للإنسان. ويرتبط ذلك بالنّسبة له، "إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ، وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ، وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ، وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ"، إنّه حالٌ يرى فيه الإنسان السّماء وقد انفطرت، والبحار وقد فُجِّرت، والقبور وقد بُعثِرت، حالٌ يُفصَل في أمره، تنكشف له نتيجة أعماله ونتيجة وجوده، ينكشف له ما وراء السّماء وما وراء الأرض، بمعنى البحور وقد فُجِّرت، وبمعنى ما في نفسه، بمعنى القبور وقد بُعثِرت، إنّها حالٌ في الإنسان، ينكشف أمامه أشياءً كثيرة، لم يكن يراها، ولم يكن يعرفها.
عباد الله: إن تأمُّلنا هذا، ليس المقصود به أنّها معلومات، وإنّما المقصود به، هو تأمّلٌ في الآيات، وربط هذا التأمّل بحال الإنسان، وبوجود الإنسان، ممّا يساعده على أن يكون أكثر استقامةً، وأكثر إدراكًا لما هو قائمٌ فيه. إنّه تأمّلٌ يهدف إلى أن يُحسِّن الإنسان من سلوكه في طريق الله، ومن فهمه للتّعامل مع الله، والذي ينعكس على تعامله على هذه الأرض.
إنّه تأمّلٌ قد يعطي للإنسان طاقةً روحيّة، وطاقةً معنويّة، تساعده أن يكون أكثر صفاءً، وأكثر نقاءً، وأكثر قدرةً على أن يكون قائمًا في العمل الصّالح، وأن يكون سائرًا في الطّريق القويم، وعلى الصّراط المستقيم، وهذا ما ندعو به دائمًا في كلّ فاتحةٍ، "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ"[الفاتحة 6، 7].
نسأل الله: أن يوفّقنا أن نكون أكثر صلاحًا، وأكثر فلاحًا.
فحمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: هو أن نتأمّل في آيات الله، وأن نربط بين الظّواهر المحيطة بنا، وبين وجودنا وما في نفوسنا، في معاشنا وفي سُباتنا، في حركتنا وفي سكوننا، في فكرنا وفي ذكرنا، وفي عملنا، في كلّ أمرٍ من أمور حياتنا ـ هذا يساعدنا أن نكون أكثر صلاحًا، وأكثر فلاحًا.
وهناك آياتٌ كثيرة، تعرّضنا لبعضها، لنوضّح هذه العلاقة بين الظّواهر الكونيّة، وبين حياة الإنسان وأحواله في طريق الله، وأحواله بصفةٍ عامّة على هذه الأرض، سواء من النّاحية الجسديّة في يقظته ونومه، أو في أحواله السلوكيّة في معاملاته، واتجاهاته، وأفكاره، وانفعالاته، ورغباته، ومقاصده ـ في كلّ هذه الأمور، يمكن أن يكون تأمّله فيما يحدث حوله من ظواهر كونيّة، سببًا لأن يتعلّم عن حياته، وعن وجوده، وعن سلوكه، وعن كلّ أمرٍ يعيش من أجله، وكلّ حالٍ يعيش فيه.
عباد الله: نسأل الله: أن يوفّقنا لذلك، وأن يجعلنا أهلاً لذلك.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النّاس حولنا.
اللهم ونحن نتّجه إليك، ونتوكّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلّا إليك.
اللهم فاكشف الغمّة عنّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السّاعة ذنبًا إلّا غفرته، ولا همًّا إلّا فرّجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلّا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا.
____________________________ 
(1)           قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يا فلان: إذا أَتيتَ مَضْجعكَ فراشك فتوضَّأ وُضُوءك للصلاة ثم اضْطَجِعْ على شِقِّك الأيْمنِ إذا أوْيتَ إلى فراشك فقل: اللَّهمَّ أسْلَمْتُ نَفْسي إليك ووجَّهْتُ وجهي إليك وفوَّضْتُ أمْري إليك وألجَأْتُ ظَهْري إليك رَغْبة ورَهْبة إليك لا مَلْجأ ولا مَنْجَا منك إلا إليك آمنتُ بكتابك الذي أنزلتَ وبنبيِّك الذي أرسلتَ فإنكَ إنْ مُتَّ في ليلتك مُتَّ على الفِطْرَةِ وإنْ أصبحتَ أَصَبْتَ خيراً". [أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن البراء بن عازب]


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق