حديث الجمعة
10 صفر 1440هـ الموافق
19 أكتوبر 2018م
السيد/ علي رافع
حمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول
الله.
نستعين بالله ونستنصره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، نعوذ
به من الشّيطان الرّجيم، نعوذ به من سيّئات أعمالنا، مستغفرينه دائمًا، طالبين
رحمته، راجعين إليه، متوكّلين عليه، لا حول ولا قوّة لنا إلّا به.
عباد الله: إنّ كتاب الله الذي أرسل، كتاب
الله الذي جاء به رسل الله، والذي يكشف عن قوانين الله في الأرض وفي السّماء ـ إذا
تأمّلنا في آياته، لأدركنا كثيرًا من القضايا التي نتحاور حولها، وندرك أنّنا في
النّهاية، لا نستطيع أن نحكم على أيّ شيءٍ حكمًا مطلقًا.
"هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ
آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ..."[آل عمران 7]، هنا نقف ونتساءل بيننا وبين
أنفسنا، هل يستطيع أحدٌ ـ وإن كان كثيرون
ادّعوا ذلك ـ أن يحدّد ما هي الآيات المحكمات، وما هي الآيات المتشابهات؟ وهل معنى
أنّها آياتٌ محكمات، يعني أنّها لها تفسيرٌ واحد، أو فهمٌ واحد، أو أنّه ربّما
يكون لنا مفاهيم كثيرة؟
نحن لن نحكم بشيءٍ، وإنّما سوف ننظر إلى الواقع الذي
نراه. إنّك حين تنظر في كتب التّفاسير، سوف تجد تفسيراتٍ كثيرة للآية الواحدة،
وهذا بغضّ النّظر عن كونها مصنّفةٌ أنّها آيةٌ محكمة أو آيةٌ متشابهة. إذًا، ماذا
نفعل حيال ذلك؟
علينا أن نفهم أنّ آيات الله ليست مجرّد كلماتٍ، إنّما
هي كلماتٌ محمّلةٌ بطاقةٍ روحيّة، وأنّ الإنسان حين يقرؤها بصدقٍ وبطُهرٍ، سوف تصل
له معانٍ روحيّة، "لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ"[الواقعة 79]، وهذا تعبيرٌ مطلق. إذا كان
النّاس قد حصروا المعنى في الطّهارة الذّاتيّة، إلّا أنّه يمكن أن يحتمل الطّهارة
الرّوحيّة، والصدق، والإخلاص، والتّدبّر بعمق.
إذًا، فالقضيّة، ليست أن يجيئ إنسانٌ بفهمٍ واحدٍ، ويقول
هذا هو فهم هذه الآية، هذا هو تفسير هذه الآية، هذا هو تأويل هذه الآية.
"... فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ
فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ..."[آل عمران 7]. وكما أشرنا، حين نتأمّل في هذه الآية، أنّنا لا
نستطيع أن نضع أصابعنا على آيةٍ مّا، ونقول أنّ "الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ"، ويحدّدون
الآية التي يتّبعونها، إنّما القضيّة ما تعتقده أنت، هل تعتقد أنّها متشابهةٌ،
وأنّك يُمكنك أن تخرج منها بمعنىً تريده أنت؟
"فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ
فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ"، فيفسّرون الآية كما يريدون،
وكما يحلو لهم، وكما يساعدهم للوصول لمآرب مادّيّة، أو ليأتوا بتفسيرٍ يرضى عنه
حكّامهم وطواغيتهم.
فنجد في بدايات الفتنة في التّاريخ الإسلاميّ، حدث ذلك
في الآية: "... وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ
سُلْطَانًا ..."[الإسراء 33]، فحين قُتِل عثمان ـ الخليفة في ذلك الوقت ـ قال
من ينتمون إليه بصلة القرابة والقربى، أنّهم أولياؤه، وأنّه قُتِل مظلومًا، وأنّ عليهم
أن يأخذوا بثأره، وأن يقتلوا قاتليه، وأن تكون لهم الولاية حتّى يُمَكّنوا من ذلك.
"فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ
فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ"، فجعلوا هذه الآية متشابهةً،
وأخذوا المعنى الذي يريدونه، ولم ينظروا إلى ما قد تشير إليه هذه الآية من معانٍ
أخرى، يبتغون الفتنة، هكذا تقول الآية: "... فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ
مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ..."[آل عمران 7]، تأويله لأغراضهم، أو لأن
يثيروا فتنةً في مجتمعهم حتّى يصلوا لمرادهم.
"... وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ..."[آل عمران 7]. لذلك، الإنسان الصّادق، لا
يستطيع أن يأخذ معنىً تميل إليه نفسه، ويكسب منه مآرب دنيويّة، وينسب هذا التّفسير
إلى آيةٍ، بل يقول بكلّ تبجّحٍ: هذا كلام الله، وهذا ما أراد الله، وهذا حكم الله.
لا يستطيع أن يقول ذلك أبدًا؛ لأنّه "وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا
اللَّهُ".
"... وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ..."[آل عمران 7]، ماذا يقولون؟ "... يَقُولُونَ آمَنَّا
بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ..."[آل عمران 7]، هم لا يفرّقون ويقولون هذا
متشابهٌ وهذا محكمٌ، ويضعون المحكم كما يريدون، ويضعون المتشابه كما يريدون؛ لأنّه
"وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ"، فلا يستطيع أحدٌ
أن يقول: أنّ هذا محكمٌ وأنّ هذا متشابه، في واقع الأمر، لذلك "يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ
رَبِّنَا"، وهذه صفة الرّاسخين في العلم.
فهنا نرى، أنّ الكثيرين ممّن يدّعون العلم، حاولوا
بمفهومهم لهذه الآية، أن يصنّفوا الآيات، فيقولوا هذه آياتٌ لا تقبل أن يكون لها
إلّا تفسيرٌ واحد، وهذه آيةٌ يمكن أن تقبل تفاسير كثيرة. وفي واقع الأمر، لا
يستطيع إنسانٌ أن يقول ذلك؛ لأنّ "وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا
اللَّهُ"، ولا يعلم المحكم من المتشابه إلّا الله.
وجاءت الآية لتحلّ هذه المشكلة، بضربها المثل للرّاسخين
في العلم؛ لأنّهم لا يفرّقون بين آيةٍ وآية، "يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ
كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا".
فأنت، عليك أن تتأمّل في كلّ آيةٍ وتتدبّر فيها، ويكون
لك فهمك في هذه الآية، ولا يعني أنّ فهمك هو الصّحيح المطلق، إنّما أنت تتواصل
وتسأل الله أن يجعل من قراءتك هدايةً لك، ونورًا لك، يساعدك في طريقك، وأن تتّخذ
طريقًا سويًّا، وألّا تستخدم آيات الله لأغراضٍ مادّيّةٍ بحتة، تميل إليها بشهواتك،
وبرغباتك، وبمادّيّ وجودك. تُكبِر آيات الله عن أن تجعل من فهمك لها، وسيلةً
لاستخدامها لهدفٍ مادّيّ تريد أن تحقّقه.
إذا رأيت في هدفٍ مادّيّ أنّه فيه الصّلاح والفلاح، فهذا
يكفي لأن تدافع عنه؛ لأنّ هناك حججٌ كثيرة، من واقع حياتك ومن واقع وجودك، تُمكّنك
من الدّفاع عن هذا الهدف. وهذا، هو استخدامك لآيات الله، بما جعلت لك من طاقةٍ على
أن ترى الأمور كما يجب أن تراها عليه.
فالدّين، إذا استُخدِم لصلاح الدّنيا، فهو من خلال
الإنسان بإصلاحه، بحيث يرى الإنسان ما هو صالحٌ وما هو طالحٌ، وليس بأن تأخذ فهمًا
أو قولًا قاله السّلف، أو قاله أيّ إنسانٍ وتردّده، بأنّ هذا مراد الله. مراد الله،
هو أن تكون إنسانًا صالحًا تبتغي مصلحة العباد، وما هو أفضل، وما هو أحسن، وما هو
أقوم.
هكذا نتدبّر في آيات الله، ونُكبِرها عن أيّ صورةٍ أو
شكل، ونقول أيضًا ونحن نُعرِّف عن ذلك، بأنّ هذا تأمّلٌ فيه إكبارٌ لآيات الله عن
أيّ شكلٍ وعن أيّ صورة، وأنّ هذا هو تأمّلنا وتدبّرنا، ولا نستطيع أن نحجر على أيّ
تأمّلٍ وتدبّرٍ آخر.
إنّما نُذكّر بما نرى أنّه الأفضل، ونحاول أن نكون أهلًا
لذلك، وأن نُعلّم عن ذلك، وأن نُعرِّف عن ذلك. وكلّ إنسانٍ عليه أن يتأمّل بدوره،
فلا يأخذ كلامنا أو أيّ كلامٍ آخر على أنّه حقيقةٌ مطلقة، وإنّما يتأمّل ويتدبّر
فيه، وما يطمئنّ له قلبه، يقوم فيه ويتعامل معه.
عباد الله: نسأل الله: أن يوفّقنا لما فيه
خيرنا، ولما فيه صلاحنا.
فحمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول
الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: أنّ
علينا أن نتدبّر في آيات الله، وألّا نأخذ الأمور بسطحيّةٍ، وإنّما نحاول أن
نتدبّر أكثر في المعاني.
وقد ضربنا مثلًا اليوم، بالآية التي تتحدّث عن الآيات
المحكمات وعن الآيات المتشابهات، وأوضحنا تأمّلنا وتفكّرنا في هذه الآية، لنصل إلى
أنّ محاولة البعض، أن يصنّف آيات القرآن إلى محكماتٍ ومتشابهات، هي محاولةٌ لا
يستطيع أن يقوم بها إنسان؛ لأنّ كلّ آيات القرآن لها تفاسير مختلفة، ومن ثَمّ لا
يستطيع أحدٌ أن يُجزِم بمراد الله، "وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا
اللَّهُ".
إذًا، فإخطار ربّنا لنا، بأنّ هناك آياتٌ محكماتٌ وآيات
متشابهات، هو لنعرف أنّنا لا نستطيع أن نفرّق بينهم، وإنّما نقول: "كُلٌّ
مِّنْ عِندِ رَبِّنَا"، وعلينا أن نفهم نحن، ونتأمّل في كلّ الآيات، "كُلٌّ
مِّنْ عِندِ رَبِّنَا"، لنتعلّم منها ما يهدينا إلى طريق الحياة، ويجعلنا
أهلًا لنور الله، ولفيض الله، ولهداية الله.
وقد نجد ـ بالنّسبة لنا ـ أنّ هناك فهمًا نستريح إليه
وتطمئنّ له قلوبنا، فهذا هو فهمٌ محكمٌ ـ بالنّسبة لنا ـ أمّا إذا وجدنا أنّ الآية
ـ بالنّسبة لنا ـ يمكن أن يكون لها أكثر من دلالة، فهي ـ بالنّسبة للقارئ أو
للتّالي أو للمتدبّر ـ متشابهة. فإذًا، القضيّة ترجع إلى ما يراه الإنسان.
وقد يرى إنسانٌ آخر، فهمًا بصورةٍ مختلفة، قد يرى أنّ
الدّلالة لها عنده فهمٌ ـ وبالنّسبة له أيضًا ـ أنّه محكمٌ، ولكنّه مختلفٌ عن
إنسانٍ آخر، لا يعني هنا، أنّنا نتكلّم عن الآية، وإنّما نتكلّم عن تلقّي الإنسان
للآية.
نقول ذلك، حتّى لا يخرج علينا أحدٌ ويقول: هذه إرادة
الله، وهذا حكم الله، وهذا قول الله ـ وهو لا يقول إلّا فهمه أو إدراكه. فلا
يستطيع أحدٌ أن يتكلّم باسم الله، إنّما يستطيع أن يقول أنّ هذه الآية قد وردت في
القرآن، وأنّ فهمي لها هو كذا وكذا، وأنّ هذا الفهم ليس فهمًا مطلقًا. ومن ثَمّ،
فإنّ أيّ أمرٍ دنيويّ، المرجعيّة فيه إلى الأمّة التي تتواصل بينها، وتتواصى
بالحقّ والصّبر، حتّى تجد مرادها.
عباد الله: نسأل الله: أن يوفّقنا لما فيه
خيرنا، ولما فيه صلاحنا، وأن يكشف عنّا الغمّة، وأن يجعلنا أهلًا لرحمته، وأهلًا
لعلمه وحكمته.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما
عليه النّاس حولنا.
اللهم ونحن نتّجه إليك، ونتوكّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك،
ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلّا إليك.
اللهم فاكشف الغمّة عنّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين،
عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل
باطلًا وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السّاعة ذنبًا إلّا غفرته، ولا
همًّا إلّا فرّجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلّا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا
أرحم الرّاحمين ارحمنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق