حديث الجمعة
17
صفر 1440هـ الموافق
26
أكتوبر
2018م
السيد/ علي رافع
حمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول
الله.
عباد الله: تدبّروا آيات الله، واقرؤوها
بعمق، لتعرفوا طريقكم، ولتحدّدوا هدفكم، حتّى تصبحوا عبادًا لله صالحين، وحتّى
تكونوا في الطّريق القويم سائرين. ونحن في كلّ فاتحةٍ للكتاب نقرؤها، ندعو الله أن
يهدنا "...الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ"[الفاتحة 6].
وإذا تأمّلنا في معنى "...الصِّرَاطَ
المُستَقِيمَ"، فسوف نجد معانٍ كثيرة، قد يفسّرها البعض بالاتّباع الحرفيّ
لما أُمِرنا به في كتاب الله، وفي سنّة رسول الله، وهذا فهمٌ له جانبٌ من الصّحة؛
لأنّ كلّ ما أُمِرنا به هو له تأثيرٌ على قيام الإنسان الرّوحيّ، وعلى قيام
الإنسان المادّيّ.
ولكنّ التّساؤل الذي نسأله دائمًا لأنفسنا: ما هي دلالة
هذه الأوامر لنا؟ وهل نحن حقًّا مستجيبين لها، أم أنّنا نفهمها كظاهر أفعالٍ، دون
أن يكون لها تأثيرٌ في وجودنا، وفي قيامنا، وفي سلوكنا، من النّاحية المعنويّة،
والرّوحيّة، والحقيّة.
فلاكتمال هذا المفهوم، وهو اتّباع ما جاءت به الآيات،
فإنّنا علينا أن نُكمِل فهمنا بالتأمّل والتدبّر في دلالة هذه الأوامر لنا، مدركين
أنّ كلّ إنسانٍ سوف يصل إلى دلالةٍ تتناسب مع صدقه، ومع قدراته في أن يرى، وأن
يتدبّر، وأن يتأمّل. ولذلك فليست هناك دلالةٌ واحدة، وإنّما هي دلالاتٌ كثيرة، كلٌّ
يأخذ بقدره.
هناك فهمٌ آخر للصّراط المستقيم، يمكن أن يفهمه الإنسان،
وهو أن يكون متوازنًا في سلوكه وفي مفهومه، بين الغيب والشّهادة، فيعلم أنّه لا
يحيط بشيءٍ من علمٍ إلا بإذن الله، "...لاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ
عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء..."[البقرة 255]، وأنّ ما هو غيبٌ عليه كثير،
بل هو لا نهائيّ.
فلا يتصّور أنّه قد عرف كلّ شيء، أو حدّد كلّ شيء، وإنّما
يعرف أنّ ما يعلمه هو قليلٌ من كثير، وهو محدودٌ من مطلق، وأنّه مهما أوتي من علمٍ،
فلن يكون قادرًا بأن يحيط بكلّ علم. ولا يجعله ذلك يائسًا أو متخاذلًا، وإنّما
يزيده طلبًا للعلم الذي يستطيعه، ويزيده طلبًا للتأمّل فيما يراه، وفيما يستطيع أن
يعرفه.
هذا التّوازن بين ما يعرفه الإنسان وما لا يعرفه الإنسان،
هو الأمر الوسط، هو الصّراط المستقيم. وحين نقول هو ونُعرِّفه، فهذا مجرّد تأمّلٍ
وتدبّر. نردّد دائمًا أنّ ما نقوله ليس حقائق، اتّساقًا مع ما نُذكّر به الآن.
فكلّ إنسانٍ، له مفهومه وله قدرته، وعليه أن يُذكّر بها؛
لأنّه مطالبٌ بذلك، وتذكيره ـ كما نشير دائمًا ـ لا يعني أنّ ما يُذكّر به هو الحقّ
المطلق، وإنّما كلّ إنسانٍ عليه أن يدفع بما يرى أنّه الخير، وأنّه الأحسن، وأنّه
الأفضل، وعليه في نفس الوقت، أن يتقبّل من الآخرين ما يرونه أحسن وأفضل.
فنحن نذاكر دائمًا، أنّ ما يفكّر فيه الإنسان، وما
يعتقده الإنسان بأنّه أصلح لمجتمعه، أو أصلح لوجوده، هو دائمًا أمرٌ متغيّر، ولا
يعني هذا، أن يفقد الإنسان القدرة أو الرّغبة، في أن يبحث عمّا يُصلِح المجتمع،
بظنّ أنّه مهما وصل إليه من علمٍ فإنّه ربّما لا يكون الأفضل؛ لأنّ الأفضل هو أمرٌ
نسبيّ ويتغيّر، ولكن المهمّ هو الصدق في الطّلب، والصّدق في الفعل، والتّقبّل للتّغيير،
وهذا هو المهمّ في سلوك الإنسان وفيما يفعله.
عباد الله: إنّا نرى في تاريخنا وفي
حاضرنا، متغيّراتٍ كثيرة، فمفهوم الإنسان عن وجوده، وعن مجتمعه، وعن كونه، تغيّر
من القديم إلى الحديث.
ففي القديم، كان يرى أنّ الأرض هي محور الكون، وأنّ كلّ
شيءٍ يدور حولها، وحين نظر ـ بما أعطاه الله من أدواتٍ ومن معرفةٍ ـ حوله، وجد أنّ
هذه الأرض ليست إلّا نقطةً في بحرٍ كبير، وأنّ الكون الذي يتصّور أنّه محدودٌ، وأنّه
يدور حول هذه الأرض، هو كبيرٌ ويتّسع كلّ يوم، فشعر بضآلته وبافتقاره إلى الأعلى،
وأدرك "...لاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء...".
ولازال يحاول أن يفهم أكثر عن كونه.
وكلّ ما ظهر من نظريّاتٍ تفسّر خلق هذا الكون، هي
نظرياتٌ قد يجد في بعض المظاهر ما يؤيّدها، ولكن كلّها نظرياتٌ قد تتغيّر مع
الوقت، ولا يعني هذا، أن يتوقّف الإنسان عن البحث ـ كما أشرنا في الحديث ـ وإنّما
هو سيظلّ يحاول ويحاول.
نظرة الإنسان عن المجتمع وآلياته وقوانينه، أيضًا تغيّرت
كثيرًا منذ القدم حتّى وصلنا إلى ما نحن عليه. لا نعني أنّنا وصلنا إلى حالٍ أفضل،
وإنّما هو تغييرٌ في نظرتنا إلى المجتمع، وإلى كيفيّة التّعامل مع هذا المجتمع في
كلّ مناحي الحياة، سواء كانت هذه إقتصاديّة، أو إجتماعيّة، أو سياسيّة، أو سلوكيّة
ـ تتغيّر المفاهيم في آليات التّعامل، وفي آليات الحكم، وفي آليات الاقتصاد، في كلّ
شيءٍ هناك تغييرٌ من حالٍ إلى حال.
لذلك، فنحن حين نتأمّل في التّوجيه الإلهيّ للمجتمع،
وللأمّة، وللنّاس الذين يعيشون معًا ويتعاملون معًا، ويشتركون في مصادر طبيعيّة
وحياتيّة واحدة ـ التّوجيه إليهم، أن يتواصوا بالحقّ ويتواصوا بالصّبر، أن يدعوا
إلى الخير، ويأمروا بالمعروف، وينهوا عن المنكر، فهذه آليّةٌ ومنهج، وليست صورةً
أو شكلًا، إنّه منهج حياة، في القديم، والحاضر، والقادم.
مطلوبٌ من النّاس أن يُغيّروا إلى الأفضل على ما يرونه.
وهكذا، بالنّسبة للإنسان في معرفته عن نفسه، فهو مطلوبٌ منه أن يتعرّف إلى هذه الذّات التي يرتديها على
هذه الأرض، والتي يتسربل بها في وجوده المادّيّ.
وهكذا
فعل الإنسان بفطرته، إذ أنّه يحاول أن يفهم عمّا يحكم هذه الذّات، وعن كيف تعمل
أدواته وكلّ ما فيه من مكوّناتٍ، في تفاعلها، وفي ترابطها، وفي قدراتها
وإمكاناتها، وطريقة عملها. كما حاول الإنسان أن يفهم عن نفسه، وعن رغباته، وعن
تصرفاته، وعن سلوكياته، وأدرك الكثير، ولكنّه قليلٌ بالنّسبة لما يجهله.
وكذلك، حال الإنسان في علاقته
بالغيب، بما لا يراه، في تصوّراته الأوليّة، ثم في مجيء الرّسالات السّماوية، والتي
تحوّلت عند البعض إلى تجسيدٍ للذّات الإلهيّة، وإلى الحديث باسمها، إلّا من رحم
الله، وأكبَر هذه العلاقة عن أيّ صورةٍ أو عن أيّ شكل.
ولم تخلُ الأرض في أيّ مكانٍ عليها، من أناسٍ تفكّروا
وتدبّروا بما أوجد الله فيهم من فطرة، باحثين عن حقيقة وجودهم، وأدركوا أنّ بحثهم
هو المطلوب، وليس أن يصلوا إلى نتيجةٍ نهائيّة، فالنّتيجة النهائيّة أنّهم لا
يعلمون، وأنّ الله أعلم بهم، "...تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ
مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ"[المائدة 116].
عباد الله: نحن نتغيّر، وعالمنا يتغيّر،
وكلّ شيءٍ يتغيّر على هذه الأرض من حالٍ إلى حال، ومن قيامٍ إلى قيام، ومن صورةٍ
إلى صورة. فعلينا دائمًا أن نحاول مواصلة هذا التّغيير، "...إِنَّ اللّهَ
لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ..."[الرعد 11]، لا نظلّ واقفين دون أن نتحرّك،
ودون أن نُغيّر ما بأنفسنا.
هذه سُنّة الله في هذه الأرض، وهذا قانون الله الذي
أشهدنا إيّاه، في أنّ كلّ يومٍ هناك جديد، و"...كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي
شَأْنٍ"[الرحمن 29]، وكلّ حالٍ ليس جامدًا إلى الأبد، إنّما هو حالٌ يتغيّر من يومٍ ليوم، ومن
مكانٍ لمكان، ومن صورةٍ لصورة، ومن إنسانٍ لإنسان. علينا أن نكون دائمًا محاولين،
باحثين عمّا هو أحسن، وما هو أفضل، وما هو أقوم.
نسأل الله: أن يوفقنا لذلك، وأن يجعلنا أهلًا لذلك.
فحمدًا لله،
وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
_____________________
عباد الله: نحمد الله كثيرًا، ونسبّحه
بكرةً وأصيلا، ونصلّي ونسلّم على رسوله الكريم.
بدأنا حديثنا اليوم عن معنى الصّراط المستقيم، وأشرنا
إلى مفهومين عن هذا المعنى، وإن كانا ـ هما في واقع الأمر ـ مفهومٌ واحد، إذا
نظرنا نظرةً كليّة.
فإذا كان الصّراط المستقيم، هو أن يستمع الإنسان لآيات
الله، التي تكشف له عمّا فيه من فطرة، وهذه الفطرة هي قانون وجوده ـ فاستماعه لهذه
الفطرة، مع استماعه لما جاءت به رسالات السّماء لتساعده على فهم فطرته، سوف يؤدّيان
به إلى إدراك ما أُمِر به، إدراكًا يُمَكّنه من ممارسة حياته بصورةٍ أفضل.
وسوف يتعلّم من الممارسة، أنّ إدراكه متغّير وليس ثابتًا؛
لأنّ ما يدركه هو أمرٌ مقيّد، أمّا الحقيقة المطلقة، فهي أمرٌ مجرّد. والقيام بين
هذين الحالين، هو الأمر الوسط، وهو الصّراط المستقيم.
ثم تكلّمنا أكثر عن معنى التّغيير في حياتنا، لتأكيد أنّ
ما ندركه الآن، يمكن أن يتغيّر غدًا، فلا نعبد لحظةً، ولا نعبد شيئًا وصلنا إليه
بأن نتمسّك به بصورةٍ مطلقة، فكلّ ما توصّلنا إليه، هو أمرٌ نسبيّ، ويمكن أن يتغيّر،
وربطنا ذلك بما حدث على البشريّة من معتقداتٍ، سواء كانت عن الكون، أو عن المجتمع،
أو عن الإنسان ـ ثم تغيّرت بصورةٍ كبيرة مع الوقت.
ومن ثَمّ، فإنّ الإنسان هو كائنٌ متغيّر، وتَغيُّره إلى
الأفضل هو المطلوب، وتَغيُّره إلى الأفضل، لا يكون إلّا بفهم قوانين الحياة،
وقانون وجوده على هذه الأرض.
نسأل الله: أن يوفّقا أن نعمل بما عَلِمنا، وأن نطلب عِلمًا
أكبر، وعِلمًا أفضل في دوام، فلا نتوقّف عن طلب العلم وعن طلب المعرفة.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما
عليه النّاس حولنا.
اللهم ونحن نتّجه إليك، ونتوكّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك،
ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلّا إليك.
اللهم فاكشف الغمّة عنّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين،
عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل
باطلًا وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السّاعة ذنبًا إلّا غفرته، ولا
همًّا إلّا فرّجته، ولا حاجةً لنا فيها رضاك إلّا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا
أرحم الرّاحمين ارحمنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق