الخميس، 22 نوفمبر 2018

الإنسان حين يُكشف له الظّلام الذي في وجوده، فإنّه يتعلّم النّور.

حديث الجمعة 
24 صفر 1440هـ الموافق 2 نوفمبر 2018م
السيد / علي رافع
حمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
الحمد لله، الذي جمعنا على ذكره، وعلى طلبه، وعلى مقصود وجهه.
الحمد لله، الذي جعل لنا حديثًا متّصلًا نتواصى فيه بالحقّ والصّبر بيننا، نتدبّر آيات الله لنا، في الآفاق، وفي أنفسنا، حتّى يتبيّن لنا أنّه الحقّ.
فالإنسان، معرّضٌ لآيات الله، ودور الإنسان أن يقرأ هذه الآيات، فهو في قيامٍ محجوبٌ عنه ما وراء هذه الأرض، كوجوده في ظلام، في ليل، ينتظر بصيص نورٍ يستطيع به أن يرى حقيقة وجوده.
"وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ، وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ، هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ"[الفجر 5:1]، ماذا نفهم من هذه الآيات؟ التي هي رموزٌ، ليست مجرّد كلماتٍ تدلّ على ظواهر طبيعيّة، أو عباداتٍ ظاهريّة، وإنّما هي إشارةٌ لقضيّة الإنسان.
"هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ"، لذي عقل، لذي تدبّرٍ وتأمّل؟ هل في هذه الكلمات ما يجعلك تعرف أكثر عن نفسك، وأكثر عن وجودك؟ هل في هذه الكلمات إشاراتٌ لحقائق تُقسم بها؟ أنت تُقسم بمقدّسٍ لديك، تقسم بأعلىً عليك، تقسم بحقيقةٍ لديك.
"وَالْفَجْرِ"، هو يوم تقرأ آيات الله، وترى آيات الله أولًا، لتقرأها، ولكنّك في ظلام، "وَلَيَالٍ عَشْرٍ"، إشارةٌ إلى أنّك في حجابٍ كثيف، ليلةٌ تلو ليلة، فأغلب وجودك على هذه الأرض، هو قيامٌ في ليل، قيامٌ في حجاب.
قد لا ترى نتيجة هذا الظّلام الذي تعيش فيه، وهذا الحجاب الذي أنت قائمٌ فيه، وهذا الليل الذي يحيط بك ـ ولكنّ هناك فجرًا، هناك لحظةٌ سوف ترى فيها، سوف تسمع فيها، سوف تخرج من هذا الليل، فإن تعاقبت الظلمات فلا تيأس من أن ترى نورًا في يوم، لا تيأس من أن يكون هناك فجرٌ ترى فيه، وتشهد فيه آيات الله.
وأنت قائمٌ في هذا الليل، في شفعٍ ووتر، "... أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ..."[سبأ 46]، والشّفع هو أن تكون لك صحبة، أن تتواصى بالحقّ وبالصّبر مع أخٍ لك في الله. الشّفع له معانٍ كثيرة، وليس معنىً واحد، منها ما أشرنا إليه الآن، ومنها أن تكون صحبتك مع رسول الله، مع حبيب الله، مع خليل الله، ليس ذاتًا بذات، وإنّما إدراكٌ لمعنى، هو قيامك في اتّجاهٍ لقبلة، هو معنى الحضرتين، هو معنى شهادة أنّ لا إله إلّا الله وأنّ محمّدًا رسول الله.
إنّنا نريد أن نوضّح دائمًا، أنّ للإشارات الموجودة في القرآن معانٍ كثيرة، وليس معنىً واحد، وإذا كنّا نتأمّل اليوم في معنىً من هذه المعاني، فإنّ ذلك لا يعني أنّه هو المعنى الوحيد.
فأنت قيامك في ظاهر الحياة، قيامك في الحجاب، يتطلّب منك أن تكون في صحبة، فإذا أدركت الحقيقة المجرّدة، فهي لا إله إلّا الله، وهي الوتر، هي المعنى الواحد، [لا موجود بحقٍّ إلّا الله].
وهذا ما أشار القوم إليه، بمعنى الفناء في الله، [لا موجود بحقٍّ إلّا الله]، [وجودك ذنبٌ لا يُقاس به ذنب](1)؛ لأنّك في إدراكك الحقّيّ المجرّد، لا وجود لك، الوجود لله، والبقاء لله، والقيام لله، لا إله إلّا الله، الله هو الحيّ القيّوم، هو الذي "... لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ..."[الشورى 11]، وهو كلّ شيء، وهو أوّلٌ فليس قبله شيء، وهو آخرٌ فليس بعده شيء، وهو ظاهرٌ فليس فوقه شيء، وهو باطنٌ فليس دونه شيء.
حين ننظر للآيات ـ في هذه السّورة ـ التي تلي هذا القسم، نجد حديثًا، وإشارةً، وتذكيرًا بحال أممٍ من قبلنا، كيف قامت في ليل، ولم تر فجرًا، أممٌ بأكملها عاشت ليالٍ عشر، ولم تر فجرًا، "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ، وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ، وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ"[الفجر 10:6]، ماذا فعل الله بكلّ هؤلاء؟ ماذا فعل بـ "الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ"[الفجر 14:11]؟ قانون الحياة. وهذه الآيات، هي حديثٌ وتوجيهٌ للإنسان.
لذلك، نجد الآيات بعد ذلك تتحدّث عن الإنسان، "فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ، وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ"[الفجر 16،15]، هذا قيام الإنسان في الليالي العشر، هذا قيام الإنسان في الحجاب، يقيس الأمور بما هو ظاهرٌ منها، لا يعرف أن الله وراء ما يصيبه من نعمة وما يصيبه من نقمة، وأنّه مبتلى في كلا الحالين، وأنّ عليه أن يتذكّر ذلك.
هذه الآيات، تُعرِّفنا عن الإنسان في قيامه في ليل، هذه طبيعته، وهذا ما سوف يصل إليه عقله وهو في هذا الحجاب المظلم، ولا تحدّثنا عن حاله بعد أن يفيق ـ في هذه الآيات ـ إنّما تترك لنا ذلك لنتعلّمه.
فالطّبيعي أن نتعلّم من هذا الأسلوب، أن يقول الإنسان أنّ عليه أن يتعلّم من كرم الله عليه، ومن ابتلاء الله له، هو لم يطلب تقتيرًا عليه في الرّزق، ولم يرفض كرم الله عليه في أيّ صورةٍ، وفي أيّ شكل، وإنّما عليه أن يتذكّر أنّه مبتلى في الحالتين، وأنّ عليه أن يفكّر فيما يجب أن يقوم عليه إذا ما أكرمه الله، وإذا ما ابتلاه الله بأن قتّر عليه في رزقه ـ عليه أن يفكّر أنّ علاقته بالله أكبر، وأنّ صلته بالله أعظم، وأنّ تفكيره يجب أن يكون أعمق.
وهكذا، تُكمِل الآيات في وصف الإنسان في حال ظلامه، "كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا"[الفجر 20:17]، نجد أنّها تُكمِل في وصف الإنسان في وجوده في الليالي العشر، وتترك الفجر لتقدير الإنسان الذي يتأمّل في هذه الآيات، فيعرف أنّ بعد كلّ ذلك، لو أنّه تعلّم من ذلك، وقوّم نفسه على ما يجب أن يكون عليه، بعكس حاله المظلم، فإنّ فجرًا سوف يُشرق عليه، وأنّ هذا الفجر يُشرق في حياته، ويُشرق في وجوده الأرضيّ.
وهنا الإشارة بعد ذلك، أنّ على الإنسان أن يدرك أن يفيق وهو على هذه الأرض؛ لأنّ في هذا حياته، ونجاته، وصلاحه، "كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا، وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا، وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى، يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي"[الفجر  24:21]، هنا الإشارة، أنّ الإفاقة تكون على هذه الأرض، وهذا هو معنى الحياة الأرضيّة وقيامنا عليها، هو أن نفيق وأن يبزغ الفجر ونحن عليها.
"فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ، وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ، يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ"[الفجر 27:25]، هنا إشارة، لمن ظهر له الفجر على أرضه، "يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي"[الفجر 30:27].
هكذا، نجد أنّ آيات هذه السّورة تتكامل في معنىً، هو معنى الحياة، هو معنى الوجود على هذه الأرض، ومعنى الوجود بعد هذه الأرض، لعلّنا نتعلّم من آيات الله لنا، ومن تلاوتنا لآيات الله، نفكّر فيها، ونتأمّل فيها، حتّى نصل إلى حالٍ أفضل، وأن يبزغ فجرنا في قلوبنا، وفي حياتنا، فترى عيوننا ما لا تراه وهي في حال ظلام، وتسمع آذاننا ما لا يُسمع وهي في حال ظلام، وتشعر قلوبنا بما لا تشعر به وهي في حال غفلة.
[قلوب العارفين لها عيونٌ، ترى ما لا يُرى للنّاظرين](2)، هكذا عبّر القوم عن حال الإنسان في هذا الحال، الذي يبزغ فجره فيه، فيكون شاهدًا، يكون رائيًا، يكون قادرًا على التّعلّم، والتّعرُّف، والتّدبّر، والتأمّل، وأن يكون قارئًا لآيات الله، فيتحقّق بها، فيصبح في معنى: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ..."[فصلت 53]، فيتبيّن لهم أنّه الحقّ.
عباد الله: نسأل الله: أن يوفّقنا جميعًا لذلك، وأن يجعلنا أهلًا لذلك.
فحمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
_______________________
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله.
عباد الله: ما أردنا أن نقوله اليوم: هو تأمّلنا في آيات الله في سورة الفجر، في دلالاتها، وفيما توحي به إلينا من ربطٍ بين ظواهر كونيّة، وحال الإنسان، وحال الأمم، وأنّ الإنسان حين يُكشف له الظّلام الذي في وجوده، فإنّه يتعلّم النّور.
فهذه الآيات لا تحدّثنا عمّا يجب أن نكون عليه في هذه الأرض، ولكن تحدّثنا عمّا نحن عليه في ظلامنا، ونستنتج نحن أنّنا لا يجب أن نكون كذلك، فنعرف أنّ القيام في عكس ذلك، هو ما يجعلنا أهلًا لنور الله، وما يجعلنا نتعرّض لنفحات الله، فيبزغ فجرنا، فنرى ما لم نكن نراه، ونسمع ما لم نكن نسمعه.
كما توضّح لنا قيمة حياتنا، وقيمة وجودنا، بأن تُعلّمنا أن فرصتنا المتاحة لنا على هذه الأرض، هي فرصةٌ كبيرة، تُخرِجنا من الظّلمات إلى النّور، وتجعلنا في معنى: "النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ"، التي ترجع إلى ربّها راضيةً مرضيّة .
وأنّنا ما تواجدنا على هذه الأرض، إلّا لنمرّ بهذه التّجربة، فعلينا أن نتعلّم منها، وعلينا أن نكسب حياتنا.
عباد الله: نسأل الله: أن يحقّق لنا ذلك، وأن يجعلنا أهلًا لذلك.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النّاس حولنا.
اللهم ونحن نتّجه إليك، ونتوكّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلّا إليك.
اللهم فاكشف الغمّة عنّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
اللهم لا تجعل لنا في هذه السّاعة ذنبًا إلّا غفرته، ولا همًّا إلّا فرجته، ولا حاجةً لنا فيه رضاك إلّا قضيتها.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا
يا أرحم الرّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرّاحمين ارحمنا.
_____________________

(1)  مقولة للإمام علي ـ  كرم الله وجهه ـ .

(2)  من أبيات لسهل التستري.


  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق