الأربعاء، 29 يناير 2020

القرآن ليس نثرًا، ولا شعرًا، ولا نصًّا، بقدر ما هو طاقةٌ روحيَّة تحملها الكلمات وتصل إلى الأفئدة الطَّاهرة


حديث الجمعة 
1 جماد الأول 1441هـ الموافق 27 ديسمبر 2019م
السيد/ علي رافع

حمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
نستعين بالله ونستنصره، ونعوذ به من الشَّيطان الرَّجيم، نعوذ به من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، طالبين هدايةً، وفضلًا، ورحمةً، ومغفرةً، لنكون فيمن قيل فيهم "وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ..."[الإسراء 97]، وأن نكون دائمًا داعين أن يهديَنا الصِّراط المستقيم.
عباد الله: إنَّ آيات الله تخبرنا بقوانين الحياة، وقوانين الحياة أزليَّةٌ أبديَّة، وتخبرنا عن مصدر وجودنا وعن خالقنا في آياتٍ كثيرة، وهذا الإخبار ليس وصفًا، وليس تجسيدًا لصورةٍ أو شكلٍ، وإنَّما هي معانٍ مجرَّدة.
"اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ ..."[البقرة 255]، فمعاني الواحديَّة هنا هي معنىً مُجرَّد، و"لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ" هو معنىً مُجرَّد، والتَّجريد هو أنَّك تفهم المفهوم كمعنى وليس كشكلٍ مُحدَّد، وتُعبِّر عن هذا المفهوم بصورٍ كثيرة.
فلا [موجود بحقٍّ إلَّا الله]، و"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ"[الإخلاص 1]، كلُّها معانٍ مُجرَّدة محلُّها العقل الذي يتعامل مع التَّجريد، وإدراك المعاني المُجرَّدة هو أكبر من الحواسِّ، لا يحتاج إلى أن ترى، أو أن تسمع، أو أن تلمس، إنَّه ما فيك من طاقةٍ أوجدها الله على أن تفهم هذه الأمور.
"الْحَيُّ الْقَيُّومُ"، الحياة في كلِّ صورها، فلا نستطيع أن نقول أنَّنا الأحياء فقط في هذا الكون، وإنَّما الحياة لها صورٌ كثيرة ومُتعدِّدة لا نستطيع أن نحيط بها، فالحياة بهذا المعنى هي معنىً مُجرَّد أيضًا، فيما هو ظاهرٌ لنا وفيما هو غيبٌ علينا.
"لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ"، إنَّه تعبيرٌ مُجرَّد أيضًا يدل على الحالة الواحدة التي لا نعلمها، ولا نستطيع أن نحيط بها، فنحن بوجودنا تأخذنا سِنةٌ ويأخذنا نوم، ونتغيَّر من حالٍ إلى حال، ونتغيَّر من قيامٍ إلى قيام، ونتغيَّر من عالمٍ إلى عالم، فنحن اليوم في عالم الأشباح، وغدًا في عالم الأرواح، حالةٌ لا نستطيع أن نتصوَّرها، أو أن نحدَّها، أو أن نصفها، فالكلمات هنا تشير إلى حالةٍ لا نستطيع أن نصفها.
لذلك، حين اختلف السَّابقون حول طبيعة صفات الله وأسمائه من أنَّها قديمة بمعنى أنَّها مع الله متَّحدة في كيانٍ واحد، أو أنَّها منفصلة كمعنىً مخلوق، كلُّ هذا الانفصال في الفكر هو محاولةٌ لن تُؤدِّي إلى شيء، وقد أثارها الإنسان بجهله بإخضاعه ما لا يرى وما لا يستطيع لعقله، وظنَّ بذلك أنَّه سيصل إلى شيء، أو أنَّه يجب أن يصل إلى شيء، والواقع أنَّنا لن نصل إلى شيءٍ مُحدَّد.
فكما نقول دائمًا ـ هي أمورٌ غيبيَّةٌ عنَّا، هي أمورٌ مُجرَّدة لا نستطيع أن نحيط بها، إنَّما هي إشاراتٌ لنا حتَّى ترسخ في عقولنا كمعانٍ مُجرَّدة، لا نحاول أن نُجسِّدها، ولا نحاول أن نرسمها، ولا نحاول أن نُحدِّدها، ولا يجب أن نختلف عليها، أو نضع آراءً عنها، أو أن نُوجِد نظرياتٍ تُفسِّرها، إنَّها إشاراتٌ للغيب، وهي غيب.
"... لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ..."[البقرة 255]، إشارةٌ إلى لا نهائيَّة القدرة، ولا نهائيَّة الإحاطة، واللا نهائيَّة لا يمكن تفسيرها، ولا يمكن وصفها، فهي تحمل إسمًا يدلُّ على عدم التَّحديد، وعلى عدم القياس. والسَّماوات والأرض لا نهائيَّتان، إنَّهما الكون باتساعه، وقد أدركنا أنَّ الكون يتَّسع بسرعةٍ لا نهائيَّة، بسرعةٍ كبيرةٍ جدًّا.
من هنا نرى هذه الآيات تحاول أن توضِّح لنا وأن تُرسل لنا الإشارات عن لا نهائيَّة الخالق، وعن أنَّه أمرٌ مُجرَّد، أمرٌ غيبيّ، وعن علاقته بالكون، ثم بعد ذلك عن علاقته بنا، فـ "اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ" هي آياتٌ تُعلِّمنا أن نُجرِّد الله عن أيِّ صورةٍ وعن أيِّ شكل، وأن هذه المعاني هي إشارةٌ لعقولنا ولوجودنا لنشعر بوجوده معنا، حتَّى وأنَّنا لا نستطيع أن نضع له صورة، فشعورنا به شعورٌ مُجرَّد.
"لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ"، تُعلِّمنا عن علاقته بالكون، فهو الذي وراء كلِّ شيء، ودون كلِّ شيء، وقبل أيِّ شيء، وبعد أيِّ شيء، ثم تُحدِّثنا الآيات عن علاقة الإنسان به، "... مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ..."[البقرة 255]، وهنا نجد الإشارة، نجد التَّساؤل الذي وهو موجَّهٌ لعقولنا لنتساءل "مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ"؟ تُرِك هذا الأمر غير محسومٍ لنتفكَّر جميعًا في هذا المعنى، إنَّما أيًّا كان الذي يشفع عنده فلا يكون ذلك إلَّا بإذنه.
وهذا يُعلِّمنا أنَّ هذا الغيب وراءنا هو دافعٌ لنا، هو محيطٌ بنا، هو موجودٌ فينا بصورةٍ لا نعلمها ولا ندركها، فإذا انفعلنا بوجودنا ومفهومنا، فنحن الذين نتَّجه إليه أن يشفع لنا، وإذا أدركنا بإيماننا به وبغيبه، نعلم أنَّ ذلك لا يكون إلَّا بإذنه، وما هذا التَّوضيح في الآية لنا إلَّا لنتعلَّم ونحن نتَّجه إلى الله بالدُّعاء وبالشَّفاعة أنَّ الله من ورائنا بإحاطته، بإذنه، فإذا اتَّجهنا إليه بالدُّعاء حقًّا فهو إذنه، وهي قدرته، وهي رحمته، وهي شفاعته.
"... يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ..."[البقرة 255]، شعورٌ بعلاقةٍ قويَّة بهذا الغيب، مع عدم إحاطتنا به، أو إدراكنا له إدراكًا حسِّيًّا، نعلم أنَّه معنا، وأقرب إلينا من حبل الوريد، ومعنا أينما كنَّا.
"... لاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء ..."[البقرة 255]، فمهما عرفنا، ومهما علِمنا، فهذا بإذنه، وقدرته، وحكمته، ومشيئته؛ لأنَّ وجودنا له قدرة، وله مدى لا يستطيع أن يتخطَّاه، وهذه طبيعتنا، وهذه خِلْقتنا، وهذه مشيئة الله فينا، ومشيئته فينا أيضًا أن جعلنا باتِّجاهنا إليه نُوسِع من قدراتنا، ونزيد من إمكاناتنا، فجعل عندنا قدرة العلم والتَّعلُّم، والتَّعرُّف، والتَّأمُّل، والتَّدبُّر، وبكلِّ هذا تتَّسع قدراتنا وعلمنا بما أودع فينا من قدرةٍ على ذلك.
وتلخيص كلِّ ذلك "... وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ"[البقرة 255]، حاول النَّاس قديمًا أن يُفسِّروا "كُرْسِيَّهُ"، ماذا يعني ذلك، وحاولوا أن يُجسِّدوا هذا المعنى، وحاول آخرون أن يُطلِقوا هذا المعنى، ونحن نقول دائمًا، وكما قلنا اليوم، أنَّ كلَّ هذه المعاني التي تتَّصل بالخالق، تتَّصل بالغيب، لا نستطيع أن نضع لها صورةً أو شكلًا، إنَّها معانٍ مُجرَّدة، ما تحمله من طاقةٍ، وعلمٍ، ومعرفةٍ، كلُّها مُجرَّد، والألفاظ المستخدمة هي وسيلة اتِّصالٍ بيننا وبين هذا المصدر الحقِّيّ.
لذلك، فإنَّ القرآن ليس نثرًا، ولا شعرًا، ولا نصًّا، بقدر ما هو طاقةٌ روحيَّة تحملها الكلمات وتصل إلى الأفئدة الطَّاهرة، القابلة، المستقبلة، وهذا ما نحاول أن نفهمه أكثر، وأن نتدبَّر فيه أكثر. هذا هو طريق فهمنا وإدراكنا، قد نُخطئ في ذلك، وقد نصيب، ولكن هذا ما نراه اليوم، وما نعتقد أنَّه الحال الوحيد الذي يمكن أن نكون فيه صادقين اليوم، وقد يكون هناك حالٌ آخر لا نعرفه، ولا نعلمه.
عباد لله: نسأل الله: أن نقرأ آيات الله، وأن نتدبَّر معانيها بما نحن قادرون عليه، وبما نستطيع أن نفهمه وأن نتفهَّمه، وبما تستقبله قلوبنا، وتستقبله عقولنا، حتَّى نكون من الذين يتلون القرآن تلاوةً حقَّة،
فحمدًا لله، وشكرًا لله، وصلاةً وسلامًا عليك يا رسول الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.
عباد الله: قد حاولنا اليوم أن نتفهَّم وأن نتأمَّل في آياتٍ تُعبِّر عن المُقدَّس، عن الله، عن الغيب، عن الخالق، عن الذي "... لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ..."[الشورى 11]، وهو في كلِّ شيء، عن الأوَّل الذي ليس قبله شيء، وعن الآخر الذي ليس بعده شيء، وعن الباطن الذي ليس دونه شيء، وعن الظَّاهر الذي ليس فوقه شيء(1)، "الْحَيُّ الْقَيُّومُ".
حاولنا أن نتفهَّم هذه الآيات وما تحمله من رسالةٍ لنا، رسالة التَّجريد في علاقتنا بالله، وأنَّ هذا التَّجريد لا يمنعنا من أن نطلبه، وأن نسأله، وأن ندعوه، وأن نتَّجه إليه، وأن نتوكَّل عليه، وأن نطلب شفاعته، وأن نكون بإذنه من الذين يسألونه، ويطلبون العفو، والرَّحمة، والمغفرة، والعطاء، والقوَّة، يطلبون عطاءً غير مجذوذ، ورحمةً بلا حدودٍ ولا قيود.
وإن كان هناك من يشفع، فهو ما فينا من معنىً حقِّيّ، ما فينا من بذرة حياة، ما فينا من رحمة الله، ما فينا من رسول الله، وقد جعل الله فينا من يشفع عنده لنا، ففينا الشَّافع، وفينا المشفوع له، فينا الطَّالب، وفينا المطلوب.
نقرأ هذه الآيات لنتقبَّل معانيها، ولنستقبل ما فيها من رحمةٍ، ومن نعمةٍ، ومن فضلٍ، ومن قوَّةٍ، ومن طاقةٍ، لنتغيَّر بها إلى الأفضل والأحسن والأقوم.
اللهم وقد وسعت رحمتك كلَّ شيء، وخلقتنا ولم نَكُ شيئا، وعلَّمتنا ولم نُكُ نعلم، وأحييتنا وكنَّا أمواتًا، وأرسلت لنا رسالتك، وأوجدت فينا رسولك، وعلَّمتنا آياتك، وعلَّمتنا من علمك، وجعلت فينا قدرةً نتَّسع بها لنكون مستقبلين لرحمتك أكثر، ولعلمك أكثر، ولنعمتك أكثر، جعلتنا نستغفرك ونشفع بما فينا عندك، ونطلب رحمتك، ونطلب مغفرتك، ونطلب عونك، لنكون عبادًا لك خالصين، ولنكون لوجهك قاصدين، ولنكون دائمًا معك متعاملين.
اللهم وهذا حالنا لا يخفى عليك، تعلم ما بنا، وتعلم ما عليه النَّاس حولنا.
اللهم ونحن نتَّجه إليك، ونتوكَّل عليك، ونوكل ظهورنا إليك، ونسلم وجوهنا إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلَّا إليك.
اللهم فاكشف الغمَّة عنَّا، وعن بلدنا، وعن أرضنا.
اللهم ادفع عنَّا شرور أنفسنا، وشرور الأشرار من حولنا.
اللهم اجعلنا لك خالصين، لوجهك قاصدين، معك متعاملين، عندك محتسبين.
اللهم أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتِّباعه. وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
اللهم ارحمنا، واغفر لنا، واعف عنا.
يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا، يا أرحم الرَّاحمين ارحمنا.

     
___________________

(1)  جاءت فاطمةُ إلى النَّبيِّ ـ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ ـ تسألُهُ خادمًا، فقالَ لَها: " قولي: اللَّهمَّ ربَّ السَّمواتِ السَّبعِ، وربَّ العرشِ العظيمِ، ربَّنا وربَّ كلِّ شيءٍ منزِلَ التَّوراةِ والإنجيلِ والقرآنِ، فالقَ الحبِّ والنَّوى، أعوذُ بِكَ من شرِّ كلِّ شيءٍ أنتَ آخذٌ بناصيتِهِ، أنتَ الأوَّلُ فليسَ قبلَكَ شيءٌ، وأنتَ الآخِرُ فليسَ بعدَكَ شيءٌ، وأنتَ الظَّاهرُ فليسَ فوقَكَ شيءٌ، وأنتَ الباطنُ فليسَ دونَكَ شيءٌ، اقضِ عنِّي الدَّين، وأغنِني منَ الفقرِ" الراوي: أبو هرير، المحدث: الألباني، المصدر: صحيح الترمذي، خلاصة حكم المحدث: صحيح.

 



هناك تعليق واحد: